ادب وثقافة

لا يتطور المجتمع إلا من داخله

جريدة موطني

لا يتطور المجتمع إلا من داخلهلا يتطور المجتمع إلا من داخله
كتب / يوسف المقوسي

الوعي السائد في المجتمع، أو مستوى المعرفة المتعارف عليها، تبلورها نخب سياسية وثقافية. تتلقى هذه النخب معرفتها من السلف والتقاليد والماضي، فتكون ذات عقل مستسلم، أو تتجاوز كل ذلك نحو تشكيل وعي جديد، لا يتناقض بالضرورة مع الوعي الموروث لكنه لا يقف عنده ولا يعترف به إلا حيث يلزم، أو حيث يكون متناسباً مع مقتضيات التجاوز. ما يهمنا هنا هو النخبة التي تستطيع أن تتجاوز وتتمرد فتقود مجتمعها وتحدث تغييراً فيه.
يكثر عدد خريجي المدارس والجامعات العربية. هناك شك لدى الكثيرين أن النخبة الثقافية تتشكّل من هؤلاء الخريجين؛ من بعضهم على الأقل. ينبع الشك بسبب المعرفة التي يمتلكها هؤلاء الخريجون؛ ومدى اتساع أفقها وعمقها.
يتخرّج الواحد منهم وهو يحمل شهادة. لم يكن هذا ممكنا لولا حيازة صاحبها معلومات. ماذا يحدث لهذا الكم من المعلومات في دماغه؟ هل هو مستعد للتساؤل؟ هل هو مستعد للشك بالمعلومات المتلقاة؟ هل هو مستعد للبحث في أسس ما يعرف؟ هل هو مستعد للتحليل والاستنتاج بما يخزّن من معلومات أو بما يرد أمامه؟ هل ان المعلومات أمامه حيزها واسع الشمول أم أفقها محصور؟ باختصار، هل هو مستعد وقادر على التمحيص في المعلومات التي يتلقاها؛ ويرفضها إذا اقتضى الأمر؟ هل هو مستعد للتمرد؟ أو يكتفي بعقل مستريح ووعي موروث ؟.

المعلومات لا تجعل من حاملها مثقفاً مهما كان اتساع الأفق وعمق الغور. الاشتعال الداخلي، والذي يسمى ملكة التفكير، هو المادة الحقيقية للمثقفين. القلق الدائم، وعدم الاستكانة أو الاطمئنان لأي معلومة أو معرفة؛ السعي الدائم وراء الحقيقة ربما لا يوجد ولن يوجد ولم يوجد. في السعي توجد الحقيقة، بين أيدينا، ولا نستطيع القبض عليها. لا يسعى إلا من كان قلقاً. ولا يقلق إلا من كان متسائلاً. ولا يتساءل إلا من كان ذا شك. ولا يشك إلا من كان ملتزماً بمجتمعه والحقيقة لدى مجتمعه والإنسانية. ليس مجتمعنا معزولاً إلا إذا أردنا ذلك. الدوران حول أنفسنا هو الانعزال. يحدث ذلك بتكرار واجترار ما لدينا من أفكار ومعلومات حتى ولو اعتبرناها سماوية .

يلتقي الباحث والمثقف حول ذلك. لكن الباحث أكثر ميلاً للتخصص والبحث الموضوعي، والتعمّق في مجال اختصاصه، والبعد عن اتخاذ الموقف السياسي. المثقف أكثر ميلاً لاتخاذ الموقف. لكن الموقف لا يكون جدياً إلا متى استند على البحث العلمي. ليس صدفة أن بلداننا العربية تخلو من مراكز البحث العلمي، سواء كانت تتعلّق بالعلوم المادية أو الإنسانية؛ وكأنها ممنوعة علينا، أو أن السلطات السياسية ترفضها لأنها تجد فيها ما يتعارض مع الدعائم المعرفية لهذه السلطة. وترى فيها ما يناقض الوعي السائد الذي يستكين له المجتمع. كل منهما عدو للبحث العلمي ولنشوء فئة مثقفين دعامتها الباحثون. العائقان هما استبدادية السلطة.

وسيطرة التقليد المستسلم للماضي. كلاهما يساهم في نشوء العقل المغلق، الذي يدور حول نفسه؛ وكلاهما يخاف ويعارض التجاوز والخروج من الدوران حول الذات. وكلاهما يعتبر الجديد خطراً عليه. إن خلو بلادنا من مراكز بحث جدية هو تعبير عن هذا الخوف الذي يؤدي الى معارضة شرسة لما هو جديد، والى القمع ضد الرؤوس التي تعتقد أن حرية البحث حق لها وواجب عليها.
لا يتطوّر المجتمع إلا من داخله. غير ذلك يعتبر استعماراً أو استبداداً. الاستبداد أيضاً قوة خارجية. تربض فوق المجتمع وتضغط عليه وتمنع تطوره. على الأقل، هذا هو نوع الاستبداد الذي شهدناه في بلادنا العربية. أما الاستعمار، فعندما يفرض نفسه يجر الناس الى تعبئة من أجل التحرر الوطني، والى نسيان ضرورة التطوّر والتجاوز .

لا تفيدنا العلوم الدينية في تقديم حلول لمشاكل مجتمعنا. معظمها اجتهادات استنباطية. نستخرج الأحكام من قوانين معطاة سلفاً. هي لا تزيد لمعرفتنا النظرية شيئاً، ولا تساهم في التطوير باتجاه التجاوز. تدعي أن مهمتها الحفاظ على استقامة التقوى. التطوّر لا يحدث بالسير على صراط مستقيم. بل يحدث على طريق متعرجة تخلو من الاستقامة.
الاستبداد الذي لدينا لا هم له إلا البقاء في السلطة، ويرى ذلك مرهونا بإبقاء الوعي السائد. حتى الاستبداد المستنير أمر نفتقده. استبداد مسكون بالماضي، يرى العلوم الدينية دعامة له. لم يكن صدفة أنه منذ عقود والاستبداد يتلاعب بالدين؛ يحارب بعضه ويشجع بعضه الآخر، ويتبنى مظاهر التقوى كي يحافظ على قاعدته التقليدية.

يتعاون الاستبداد والتقليد على مجتمعنا، وإن اختلفت المظاهر لدى كل منهما. يتصارعان لكن البنية الفكرية واحدة عندهما. كل منهما يعتبر أنه يمتلك الحقيقة. حقيقة المجتمع وما يمكن أن يؤول إليه. يختلف جوهر الحقيقتين، لكنهما تتغازلان في تحالف شيطاني ضد المجتمع. تعتبران أنه يجب أن تبقى الامور كما هي. رؤية كل منهما رجعية أو ما يشابهها. رغم ادعاءات تقدمية عند طرف دون الآخر . 

لا يتطور المجتمع إلا من داخله

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار