مصر حين ينهض الصباح من قلب الأيام الثقيلة

بقلم/نشأت البسيوني
ليست الأيام كلها متشابهة فهناك أيام تمضي كأنها تساق بالعصا ثقيلة الخطو متعبة الملامح لا تمنحك سوى شعور معلق بأن الغد أبعد مما يبدو ومصر مثل كل وطن كبير مرت بأيام من هذا النوع أيام تثقل الذاكرة لكنها كما اعتادت لم تنم تحت وطأة الثقل بل نامت قليلا ثم قامت من ينظر حوله اليوم يظن أن التغير حدث فجأة لكن الحقيقة أن التغير لم يكن صدى قرار عابر بل حصيلة
أعوام طويلة كانت البلاد فيها تعيد ترتيب نفسها خطوة خطوة وكأنها ترقع ثوبا ممزقا قطعة بعد قطعة حتى عاد الثوب صالحا لأن يرتدى من جديد بين الأمس واليوم مساحة تتسع للأمل منذ سنوات كانت شوارع كثيرة تبدو وكأنها تقاوم الزمن مبان قديمة تئن وطرق مزدحمة أكثر مما يجب وخدمات لا تجاري طموح الناس ولا حجم الحياة لكن شيئا ما كان يتحرك هناك في العمق شيئا لم يكن
مسموعا لكنه كان واضحا لمن يراقب بعين صبورة بدأت المشروعات تتدفق لا على هيئة عناوين براقة بل كواقع يلمسه الإنسان في قلب يومه طريق يختصر المسافة مستشفى تعيد الطمأنينة مدرسة تحسن الفكرة مدينة تنير ظلام العشوائية
وهكذا شيئا فشيئا بدأ صوت الوطن يعود صوت هادئ في البداية ثم أعلى ثم واثق المدن الجديدة لا تبنى بالطوب وحده من يقف
على أطراف العاصمة الإدارية أو يلقي نظرة على العلمين وهي تعانق أفق البحر يدرك أن الفكرة لم تكن مجرد نقل السكان إلى مكان أوسع بل نقل الوطن نفسه إلى مساحة جديدة من التفكير
المدن الحديثة ليست مجرد خرسانة هي رسالة تقول إن البلد لم يعد يقبل أن يحيا على حدود الزمن بل يريد أن يسبق الزمن بخطوة كل مبنى أبيض ينهض هناك كل شارع يفتح كل نافذة تطل
على اتساع لا يشبه القديم هي في الحقيقة جزء من محاولة هادئة لترميم الروح قبل ترميم المكان المصري المشروع الذي لا يشيخ
مهما بني من طرق ومهما شيد من جسور ومهما ارتفع من عمارات يبقى الإنسان حجر الزاوية لذلك حين اهتمت الدولة بالتعليم بالتدريب بالشباب بالمرأة بالصحة لم تكن تنفذ خططا ورقية بل
كانت تعيد صياغة الإنسان ذاته هناك جيل جديد يظهر الان لا يشبه
كثيرا من سبقه جيل يعرف التكنولوجيا ويعرف العالم ويعرف أن الفرص لا تأتي لمن يقف ثابتا بل لمن يتحرك جيل يريد أن يكون له دور لا أن يكون مجرد شاهد الأمن حين تعود الطمأنينة إلى البيوت
قبل سنوات كان القلق ضيفا ثقيلا على حياة كثيرين لكن شيئا تغير الشوارع أصبحت أكثر انتظاما الحركة أكثر هدوءا والناس وإن لم تنس لكنها تشعر أن هناك من يسهر لتبقى البلاد واقفة الأمن ليس
سلاحا ولا زيا رسميا الأمن شعور داخلي ينعكس على تفاصيل صغيرة أن تمشي ليلا دون خوف أن ترسل أبناءك للمدارس مطمئنا
أن تجمع قوت يومك دون توتر وهو شعور عاد شيئا فشيئا حتى أصبح جزءا من حياة الناس من جديد الاقتصاد رحلة طويلة لا يحبها أحد لكن لا غنى عنها الإصلاح الاقتصادي لم يكن طريقا مفروشا بالورود بل كان طريقا مليئا بالحجارة يزلق كل من يمر عليه
لكن وعلى الرغم من التعب بدأت تلوح نتائج العمل الشاق مشروعات قومية تشغل الملايين استثمارات تأتي من الخارج بنية تحتية تعيد رسم خريطة البلد من الصفر لم يكن الأمر سهلا على المواطن العادي لكن كل نهضة في العالم كانت لها كلفة وكل دولة عبرت الأزمات احتاجت إلى صبر يزيد عن احتمالاتها وما زالت الرحلة طويلة لكنها تسير المرأة نصف النور لا يمكن لأي بلاد أن
تنهض وهي تحمل نصف طاقتها خلف الستار واليوم باتت المرأة المصرية في كل مكان في الحكومة في الوزارات في الجامعات في الإعلام في الأعمال لم يعد وجودها استثناء ولا تزيينا بل ضرورة تثبت كل يوم أنها في مكانها الصحيح الثقافة صوت الوطن الذي لا يصمت مصر بلد يكتب التاريخ بيده بلد لا يعيش بلا فن ولا كلمة ولا مسرح ولا حكاية وعلى الرغم من الركض وراء التنمية المادية لم
تهمل الدولة صوت الثقافة بل دعمته متاحف جديدة مسارح تفتح مهرجانات تعود تراث يحفظ فالوطن الذي ينسى ثقافته يفقد روحه ومصر تعرف كيف تحافظ على روحها مهما تغير الزمن ما بعد الصعوبات وطن يلتقط أنفاسه نعم مررنا بسنوات صعبة ولا أحد ينكر ذلك لكن الأوطان التي تتعلم من الصعوبات تصبح أقوى مما كانت عليه ومصر اليوم تقف على أعتاب مرحلة مختلفة مرحلة لا
تشبه ما قبلها مرحلة تمهد لغد أهدأ ومستقبل أكثر وضوحا ومسار أقل تعقيدا مما اعتدناه حين ينهض الصباح الصباح لا يأتي دفعة واحدة يبدأ بخيط رفيع من الضوء ثم يشتد شيئا فشيئا حتى يصبح النهار واضحا ومصر مهما طال ليلها تعرف كيف تدعو الصباح إلى بيتها تعرف كيف تجمع قوتها من جديد كيف ترفع رأسها وكيف تقول لأبنائها لسه اللي جاي أجمل طول ما فينا نبض

