
نشأت البسيوني
هناك أنواع من الفقد لا تشبه شيئاً مما نعرفه أنواع لا نحتملها ولا نستطيع شرحها لأنها لا تفقدنا شخصاً فقط بل تفقدنا جزءاً من أنفسنا وهذا الرجل الذي يبدأ منه هذا النص ليس مجرد عاشق حزين ولا رجل تائه بين امرأتين هو إنسان يمر بأصعب امتحان يمكن أن يمر به قلب محب أن يحاول أن يعيش بعد أن ماتت الحياة التي كان يعرف شكلها إنه رجل حمل الحب في ذراعيه حتى آخر أنفاسه ثم وجد نفسه مضطرا إلى حمل الجرح وحده
حين كان قلبه يعرف الطمأنينة كان للحياة شكل مختلف في وجود تلك المرأة لم تكن فقط حبيبته بل كانت مساحة آمنة كانت الجزء الذي يستريح عليه من تعب العالم كانت اللمسة التي تعيد ترتيب فوضاه الداخلية دون أن تبذل جهداً كانت تمتلك القدرة على تهدئته بمجرد نظرة كانت تخلق في حضوره مسافة صغيرة بينه وبين وجعه وكأنها تفهمه دون كلام وتصفحه دون أن يعرف
لم يكن يحتاج ليشرح ولا ليبرر ولا ليتظاهر بأنه بخير كانت تعرف كل ما فيه وتحبه رغم كل ما فيه كان الحب معها بسيطاً جداً وبسيطاً بما يكفي ليصبح عميقاً إلى درجة يصعب نسيانها
فاجعة لا تملك اسما ثم حدث ما لم يكن يخطر له على بال ماتت لم يكن الموت عنده فكرة بل كان صدمة انهياراً سقوطاً لا صوت له ولم يكن الألم في رحيلها فقط بل في أن الحياة لم تمنحه فرصة الوداع ولا القدرة على الإستعداد ولا الوقت الكافي لترميم ما تبقى منه
لم يدرك حجم الكارثة إلا بعد أن وجد نفسه وحيداً أمام غياب لا ينتهي البيت صار فارغاً الليل صار أطول والقلب صار ثقيلاً كأنه يحمل جبلاً كاملاً من الذكريات فوق صدره الذاكرة التي تأكل الأيام بعد موتها
لم تعد الذكريات صوراً بل صارت حياة موازية كان يسمع ضحكتها في صمت البيت يشم رائحتها في الهواء يرى ظلها في كل امرأة تمر من أمامه كل شيء فيه كان يتصرف كأنها موجودة وكأن العالم وحده هو الذي لم يفهم أنها لم ترحل من داخله لم يكن يستطيع أن يغلق هاتفها ولا أن يغلق صندوق رسائلها ولا أن يمسح صورتها كان يخاف أن ينسى وكان يخاف أكثر أن يتذكر ظهور امرأة جديدة لا تعرف من تنافس
ثم دخلت امرأة جديدة إلى حياته كانت تحبه بطريقتها وتقترب منه برغبة صادقة في أن تمنحه بداية جديدة كانت ذكية واعية تحمل قلباً نقياً وتحاول أن تبني معه شيئاً يشبه الحياة لكن الرجل كان يعيش مأساة لا ترى
لم تكن تعرف أنها لا تواجه قلباً فارغاً بل تواجه قلباً ممتلئاً ممتلئاً حد العجز عن التنفس كانت تحاول أن تفتح باباً لكنه كان مغلقاً من الداخل كانت تنير له طريقاً لكنه كان يسير في ظلام لم يخلق من حوله بل يسكنه الصراع الذي لا يخرج منه منتصراً كان رجلاً يمشي بين طريقين طريق يحترم معه المرأة الجديدة وطريق لا يستطيع الخروج منه لأن فيه امرأة أخرى رحلت وتركت قلبه متجمداً لم يكن قاسياً معها لكنه كان ضائعاً لم يكن يرفض حبها لكنه لم يستطع أن يعيشه كان يخاف أن يظلمها وخاف أكثر أن يخدع نفسه وما بين الخوفين عاش صراعاً داخلياً أكبر من قدرته على الشرح كلما اقترب منها خطوة عاد خطوة إلى الوراء نحو ماضيه وكلما حاول أن يفتح قلبه اكتشف أن الباب لا يزال يفتح في الاتجاه الخاطئ الليالي التي تفضح كل مقاومته في الليل تسقط كل الأقنعة كان يضع رأسه على الوسادة فينهار يستيقظ فجأة كأن أحداً يناديه بإسمها يمرر يده على السرير كأنه يتأكد أنها فعلا ليست هناك لم يكن يخبر أحداً بهذا كان يرى في نفسه رجولة تمنعه من الإعتراف بالضعف لكنه في الحقيقة لم يكن ضعيفاً كان فقط حزيناً حد الإنهاك وكان هذا وحده كافياً لتفسير كل شيء لماذا لا يجد الراحة
الراحة ليست فقط من الناس الراحة تبدأ من الداخل ولا يمكن لقلب مثقوب أن يستقبل راحة كاملة هو لا يرتاح لأن قلبه غير مستقر ولأن روحه موزعة بين زمنين لا يلتقيان يحن للماضي لأنه كان حقيقياً ويحاول أن يحب الحاضر لكنه يشعر بأنه لا يزال يقف على باب لا يقدر على إغلاقه
إنه ليس رجلاً متردداً ولا رجلاً خائناً ولا رجلاً أنانياً إنه فقط رجل لم يشف بعد صوت داخلي يقول له لم يحن الوقت بعد في أعماقه كان يسمع صوتاً خافتاً يقول له أنت لست جاهزاً ليس الآن لم يكن يريد أن يسمع هذا الصوت كان يريد أن يبدأ أن يعيش أن ينسى أن يضحك أن يرتاح لكن القلب لا يسمع الأوامر القلب يسير على حسب جراحه لا على حسب رغبات صاحبه
المرأة الجديدة التي تحب رجلاً لا يعرف كيف يحب نفسه كانت تراه قوي لكنه كان هشاً كانت تراه هادئاً لكنه كان يغلي من الداخل كانت تظن أنه بخير لكنه لم يكن بخير يوماً واحداً منذ رحيل الراحلة ولا ذنب لها في ذلك ولا ذنب له أيضاً الحب ليس قراراً ولا الراحة تجلب بالقوة الذي يحاول أن يبدأ ليس هدفه أن يعود للماضي وليس هدفه أن يهرب من الحاضر كل ما يريده هو أن يتنفس دون أن يخون نفسه يريد قلباً
يستطيع أن يفتح صفحة جديدة دون أن يشعر بأن الصفحة القديمة ستتمزق معه يريد أن يحيا دون أن يختنق بالحنين يريد أن يكون عادلاً مع نفسه ومع المرأة التي معه ربما يحتاج وقتاً ربما يحتاج شجاعة وربما يحتاج معجزة صغيرة معجزة تعيد إليه القدرة على الشعور بأن الراحة ممكنة وأن الحياة بعد الفقد ليست خيانة بل محاولة للبقاء حياً هو رجل لا يزال يقف على حافة قلبه وسيأتي يوم بطريقة ما ينزل عن هذه الحافة ويبدأ الحقيقي لا نعرف متى لكننا نعرف أنه يستحق ذلك اليوم
