حين تتسلل اللا-أخلاقيات إلى منبع التعليم… يصبح المجتمع كله في دائرة الخطر
بقلم: د.م. مدحت يوسف
لم يعد ما نشهده اليوم من موجات الانحدار الأخلاقي مجرد مظاهر هامشية أو سلوكيات فردية متناثرة؛ لقد تحوّل الأمر إلى تهديد يمسّ عمق المجتمع ويخترق أكثر مؤسساته حساسية وأهمية: المدارس. فالسلوكيات السلبية التي يظهرها بعض الكبار أصبحت تنتقل مباشرة إلى الأطفال، وتؤثر على أمنهم النفسي والجسدي، وتعيد تشكيل بيئة التعليم بطريقة تُنذر بالخطر. ولم يعد الحديث مقتصرًا على انحرافات عابرة، بل وصل الأمر إلى جرائم أخلاقية واقتحامات فكرية وسلوكية تهدد حرمة المدرسة، وتحوّلها من بيئة تعلم إلى مساحة قلق، ومن مصدر للطمأنينة إلى موضع شك وخوف.
ومع وصول هذه الانحرافات إلى المدارس، باتت البيوت غير مطمئنة على أبنائها، وأصبح الآباء والأمهات يعيشون حالة قلق مستمر على مستقبل أطفالهم وسلامتهم. فالخطر لم يعد خارجيًّا فقط؛ بل صار يتسلل من الداخل، من المكان الذي يفترض أن يكون أكثر أمنًا وانضباطًا وحماية. وهذا يجعل من الضروري إعادة النظر في بنية المنظومة التعليمية، ليس من ناحية المباني أو المناهج فقط، بل من ناحية الأخلاق والضمير والمسؤولية.
وتتعاظم خطورة المشهد عندما ندرك أن جزءًا من هذه الفوضى الأخلاقية يعود إلى وجود خلل في اختيار من يعملون داخل المنظومة التعليمية. فهناك من يشغلون مواقع حساسة دون أن يمتلكوا الحد الأدنى من الوعي أو الكفاءة أو الأخلاقيات اللازمة لحماية الأطفال. وهناك من يدخلون المجال التعليمي دون تأهيل، أو دون قيم مهنية واضحة، فيتحول وجودهم داخل المدرسة إلى ثغرة تسمح بتسلل السلوكيات المنحرفة وتهديد الأمن التربوي الذي يُعد أساسًا لأمن المجتمع.
ومن هنا تظهر ضرورة التفكير خارج الصندوق، والابتعاد عن معالجة الأخطاء بعد وقوعها. إن بناء منظومة تعليمية آمنة لا يتم بقرارات انفعالية ولا بردود أفعال مؤقتة، بل يبدأ بوضع معايير دقيقة لاختيار كل من يدخل قطاع التعليم، سواء من العاملين أو الإداريين أو من يتولون القيادة. وفي هذا الإطار، يصبح الحديث عن المستثمرين في قطاع التعليم محورًا بالغ الأهمية. فليس كل من يمتلك المال يصبح مؤهلًا لفتح مدارس، ولا يجوز أن يكون التعليم ساحة مفتوحة لمن لا يُعرف مصدر أموالهم أو لا يمتلكون رؤية حقيقية لخدمة المجتمع. فالتعليم ليس استثمارًا عقاريًا أو مشروعًا تجاريًا، بل مسؤولية وطنية تتعلق ببناء أجيال وحماية عقول وتشكل الهوية والأخلاق.
إن السماح لأي شخص بفتح مدرسة دون معايير صارمة يعني فتح الباب لتدمير المنظومة من الداخل. وهذا يستدعي وضع ضوابط واضحة، تبدأ بالتحقق من مصادر الأموال، وتمرّ بالتقييم المهني والأخلاقي للمستثمر نفسه، وتنتهي بوضع شروط لا يمكن تجاوزها تتعلق بالخبرة، والكوادر، والنظام الإداري، وميثاق القيم الذي يلتزم به أي كيان يدخل إلى هذا المجال. لقد انتهى زمن الاكتفاء بالتصاريح الورقية، وحان وقت بناء منظومة استثمارية في التعليم ترتكز على النزاهة والمسؤولية الاجتماعية وليس على القدرة المالية فقط.
وتأتي أهمية القيادات التعليمية كحلقة مركزية في حماية هذه المنظومة. فالقيادة ليست لقبًا إداريًا، بل هي خط الدفاع الأول ضد الانحرافات الأخلاقية. ولذلك يجب اختيار القيادات على أساس المعرفة والخبرة والضمير، لا على أساس العلاقات أو المصالح. فوجود قيادة حكيمة قادرة على إدارة الأزمات ووضع أنظمة رقابية صارمة يقلل من احتمالات التدهور الأخلاقي، ويعيد للمدرسة مكانتها كمصدر للأمان والعلم والانضباط.
إن ما يحدث اليوم من انحدار أخلاقي وصل إلى المدارس هو تحذير صريح بأن المجتمع بحاجة إلى إعادة بناء منظومة القيم من جذورها. وهذا لا يتم إلا من خلال فريق عمل متجانس، يملك رؤى متعددة، ويعمل وفق منهجية علمية، ويقدر حجم التحديات المعاصرة. فالعالم اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، والسلوكيات المنحرفة تنتشر بسرعة أكبر، وأي ثغرة داخل المدرسة يمكن أن تتحول إلى كارثة تمس المجتمع كله.
إن حماية الأطفال ليست مهمة فرد واحد ولا جهة واحدة، بل هي مسؤولية جماعية تبدأ من الأسرة، وتُعزَّز عبر المدرسة، وتُصان من خلال الدولة، وتُحرس بقوة التشريعات، وتُخرس أي استهتار في التعامل مع التعليم. ومهما كانت التحديات كبيرة، فإن البناء الأخلاقي الصحيح قادر على حماية المجتمع وإعادة الطمأنينة إلى البيوت، شرط أن ندرك أن التعليم ليس مجرد مبانٍ وكتب، بل هو منظومة قيم، وأمان، وضمير، ومسؤولية وطنية.
TopFans DrEng Medhat Youssef Moischool خطى الوعي وزارة التربية والتعليم المصرية
حين تتسلل اللا-أخلاقيات إلى منبع التعليم… يصبح المجتمع كله في دائرة الخطر


