لماذا بقيت قصة نيلز حيّة رغم مرور أكثر من قرن؟


ساهرة رشيد / العراق
حين تتحوّل الجغرافية إلى رحلة… وحين تتحوّل الرحلة إلى درس في الإنسانية
ليست كل الرحلات تبدأ بخطوة على الأرض؛ فبعضها يولد من خطأ صغير يغيّر مسار العمر بأكمله. وهذا ما حدث مع الفتى نيلز هولغرسون، بطل الحكاية التي لم تُكتب في الأصل لتكون مجرد قصة للأطفال، بل لتعيد رسم علاقة الطالب بالعالم من حوله، وتحوّل مادة الجغرافية الصعبة إلى مغامرة تطير على جناح الخيال.
في بداية القرن الماضي، كانت الجغرافية تُدرَّس كخرائط باردة وحدود جامدة، يصعب على الأطفال ابتلاعها. فكان لا بد من طريقة جديدة تُشعل خيال الطالب بدلاً من أن تُثقله. ومن هنا خرجت رواية الأديبة السويدية سلما لاغرلوف، التي اختارت أن تقدّم بلادها عبر رحلة طفل يتقلّص حجمه، ويُمنح القدرة على فهم لغة الحيوانات، ليرى العالم من زاوية لم يرها من قبل.
تبدأ مغامرة نيلز حين يعاقبه قزم سحري بسبب قسوته على الحيوانات. فيصبح صغيراً، ضعيفاً، يرى الخوف كما رأته منه المخلوقات يوماً. تلك اللحظة كانت بداية تحوّل داخلي عميق؛ فقد وجد نفسه على ظهر الإوزة “مورتن”، يعبر الأراضي السويدية مدينةً بعد أخرى، وجبلاً بعد آخر، في رحلة لا تعلّمه الجغرافية فقط، بل تعلّمه نفسه أولاً.
كان هدف الرواية أن يتعرّف الطفل على تضاريس بلاده ومناخها وحيواناتها، لكن بطريقة ناعمة، تأتي على شكل أحداث لا على شكل دروس. فكل محطة في الرحلة كانت بوابة إلى معلومة: نهر يروي قصة المناخ، غابة تكشف أسرار الفصول، مدينة صغيرة تحمل حكايات ناسها. وهكذا التهم الطلاب المعرفة دون أن يشعروا أنهم يدرسون، وكأنهم يسافرون مع الصبي الصغير عبر الخريطة نفسها.
لكن قيمة نيلز لم تكن تعليمية فقط؛ كانت تربوية بامتياز. فالصبي المدلل الكسول تعلّم في رحلته معنى الرحمة عندما بدأ يساعد الحيوانات بدل إيذائها، وتعلّم الشجاعة حين وقف يدافع عن أصدقائه رغم ضعفه الجسدي، وتعلّم المسؤولية حين أدرك أن الإنسان يكبر حقاً حين يصالح نفسه قبل أن يصالح الآخرين.
وفي نهاية الرحلة، عاد نيلز إلى حجمه الطبيعي. لكنه لم يعد الفتى ذاته. فقد تغيّر قلبه قبل أن يتغيّر شكله، وصار أكثر نضجاً ووعياً، يفهم أن القوة لا تأتي من الحجم، بل من الأخلاق التي يحملها الإنسان تجاه من حوله.
لقد استطاعت هذه القصة أن تفعل شيئاً نادراً: أن تُسهّل علماً معقداً، وأن تُهذّب روح طفل، وأن تربط بين المعرفة والرحمة. جمعت بين الخيال والواقع، بين الدرس والحكاية، حتى أصبحت مرجعاً تربوياً قبل أن تكون عملاً كرتونياً محبوباً حول العالم.
في عالم يزداد قسوة يوماً بعد آخر، نحتاج أحياناً إلى رحلة تشبه رحلة نيلز… رحلة توقظ الضمير قبل أن تعلّم العقل. فكل واحد منا يحمل في داخله “نيلز” صغيراً، قد يخطئ، وقد يضيق قلبه، لكنه قادر دائماً على أن يتغيّر حين يرى العالم بعيونٍ أخرى.
إن التربية الحقيقية لا تُبنى بالكلمات وحدها، بل بالتجارب التي تعلّمنا كيف نحبّ، وكيف نعتذر، وكيف نبدأ من جديد بقلبٍ أكثر تواضعاً وإنسانية.
.

