النظام الليبرالي يفسح المجال للمنافسة الاجتماعية
كتبت د ليلي الهمامي
أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن
من نوائب الدهر اننا نضطر الى العودة الى الأسس الفكرية والفلسفية والدينية لتفسير أن المساواة ليست هي العدالة… وأن العدل في أن تتناسب النظم الاجتماعية مع ما هو طبيعي.
وقضت الطبيعة وفق انثروبولوجيا كانط، ووفق أسس الدين الاسلامي، ووفق جل الفلسفات، وصولا الى نيتشة..، بأن الناس يتميزون عن بعضهم البعض باختلاف القدرات الجسدية، باختلاف القدرات الذهنية والملكات والمؤهلات… وهذه فوارق طبيعية أولية.
ورد في القرآن “وخلقناكم طبقات”. ورد في القران ان الجنة طبقات. ورد في القران ايضا ان جهنم درجات وطبقات، من الادنى الى “الدرك الاسفل”. كذلك تكون المجازاة كذلك يكون العقاب.
ليس هنالك بدعة في أن نعود الى كانط وأن نلاحظ أن الناس يجتمعون ويؤسسون المجتمع انطلاقا من دافعَين؛ دافع الخوف والحاجة. الخوف من أن يكون الانسان المعزول عرضة لغوائل الطبيعة، وللوحوش التي يمكن ان تفتِك به. الحاجة المتولدة عن الخوف، الحاجة الى الاخر، الحاجة إلى أن يجتمع بالاخر.
لكن يؤكد كانط في نقد ملكة الحكم أن في اجتماعه بمثيله، يحمل الانسان في داخله الى الفضاء المدني، يحمل بطبيعته من الفضاء الطبيعي تلك الانانية؛ ان الانسان اناني بطبعه، يسعى الى الاستئثار بكل الخيرات وبكل الامتيازات لنفسه. وهو في ذات الوقت محتاج، خوفا من أن يوجَد خارج الحالة المدنية، أي خارج المجتمع. وعن ذلك تتولد المنافسة، وعن ذلك يتولد العقد الاجتماعي، اي نظام التعايش.
السؤال المطروح: هل أن النظام الاجتماعي يلغي الفوارق الطبيعية وفي ذلك ظلم عين الظلم كما يقول هيراقليتس؟: “إن الظلم عين الظلم في أن نحرر العبد” … باعتبار العبد غير عاقل ولا يمكنه ان يسوس نفسه بنفسه…
النظام الاجتماعي لا يلغي الفوارق الطبيعية وانما يفترض وفق كانط حالةً من الجهل، بمعنى أنه يفترض أن هنالك ستارا يلغي او يتجاهل الفوارق الطبيعية، ليحدث مساواة في الحظوظ… المساواة في الحظوظ تضع الجميع أمام نفس الامتحانات، أمام نفس الواجبات، أمام نفس التحديات، وانطلاقا من ذلك تحصل الفوارق. بمعنى ان الاذكى سيكون في مراتب أعلى معرفيا وعلميا، والأقل ذكاء سيكون بالضرورة أدنى في نتائجه… وبذلك يعيد إنتاج المجتمع للفوارق الطبيعية، مهما افترضنا من مساواة ومن عدالة.
هنا نضع الفكر امام فرضيتين : فرضية النظام الاشتراكي الذي يتعسف على الطبيعة الانسانية، بأن يجعل النتيجة متساوية بين المتميز والغبي.
وفي هذه الحالة ستنتهي الحركية الاقتصادية والاجتماعية الى الرداءة وإلى العطالة، وهو ما حصل في الاتحاد السوفياتي. بمعنى ان الجميع يتقاضى نفس الاجر وبمعنى ان للجميع نفس الملكية. وبناء على ذلك فان المحفز للابداع بالنسبة للمتميز يتضائل ويركد ويضمر ويضمحل. نتيجة ذلك أن المجتمع يدخل في حالة توازن حركي او حيوي وفق كلود برنار يعني حالة موت…
النظام الليبرالي هو النظام الذي يفسح المجال للتميّز، للمنافسة الاجتماعية…
أكيد أن هنالك فوارق طبقية… لكن الاشكال في ما اصطلح على تسميته مع بيير بورديو “بالمصعد الاجتماعي”… يعني أن النظام الاجتماعي من المفروض ان يصلح من الفوارق بين الناس. وأن صلاح الفوارق الطبيعية بين الناس من المفروض أن يكون نسبيا. بمعنى أن لا تتحول منظومة العدالة الاجتماعية الى معاقبة للمتميز والناجح. ليس المطلوب معاقبة المتميز والناجح!!! وهنا الفرق بين النظام الليبرالي والنظام الاقطاعي، ان النظام الاقطاعي يقيم جدارا عازلا بين الطبقات وان ليس ثمة امكانية الارتقاء الاجتماعي.
في حين ان النظام الليبرالي نظام يسعى الى تعديل الفوارق الطبيعية بين الناس الى إصلاح هذه الفوارق، لكن دون ضرب الطبيعة الانسانية القائمة على غريزة الامتلاك القائمة على حب النجاح والارتقاء…
هذا ما سعيت الى تبيانه في منشوراتي السابقة؛ ان الاشكال لدينا، أن الاشكالية الأساسية والعقدة أساسية تتعلق باعتبار النجاح خطيئة، واعتبار الثروة خطيئة، واعتبار ان كل ناجح مذنبا. وهذا ما يدفع بجمع واسع وبقطاع واسع داخل الشعوب العربية الى المراهنة على سقوط الاثرياء والابتهاج لسقوطهم ولو عسفا أو ظلما… هذه ثقافة خطيرة. هذه ثقافة مدمرة.
عندما تكون الديناميكية الاقتصادية والديناميكية الاكاديمية المعرفية مستقلة عن ارادة السياسي، نكون في سياق ليبرالي خاص، سياق يعلي شأن السلطة السياسية ويمكنها من توزيع الثروة بقرار فوقي عمودي أحادي : وذلك هو عين المنطق الاقطاعي…
نحن لم نتجاوز بعد الثقافة الاقطاعية في عالمنا العربي. وهذا أمر مثبتٌ، وهذا أمر مدروسٌ، وهذا حكمٌ موضوعيٌّ…
د. ليلى الهمامي.

