الدنيا مدرسة ، مديرها الزمن، وأستاذها القدر ، وتلاميذها نحن البشر
هنا نابل / بقلم المعز غني
الدنيا ليست مجرّد أيامٍ تتراكض بنا نحو المجهول ، بل مدرسةٌ عتيقة الجدران ، متجدّدة الفصول ، مديرها الزمن الصارم الذي لا يُحابِي ، وأستاذها القدر الذي يُدرِّسنا دون أن يشرح ، ويُمتحننا دون أن يُمهِّد ، ويُقوِّمنا دون أن يستأذن .
ندخل صفوف هذه المدرسة صغارًا بعيونٍ واسعة وقلوبٍ بيضاء ، نحمل دفاتر الأحلام وأقلام الأمل ، ونحسب أن الدروس سهلة ، وأن الإمتحانات لا تأتي فجأة ، لكننا سرعان ما نكتشف أن الحياة لا تُحاضر بالكلمات ، بل تُعلِّم بالمواقف ، وأن أصعب الدروس لا تُكتَب على السبورة او على اللوحة ، بل تُنقَش في القلب .
في هذه المدرسة نتعرّف على غرباء ، يخبرنا القدر أنهم مجرّد عابرين ، ثم يُدهشنا حين يُقيمهم في قلوبنا طويلاً.
نضحك معهم ، نبني الذكريات حجراً على حجر ، ونتقاسم الحلم والرغيف والدعاء.
ثم ، دون تمهيدٍ أو وعد ، يدعوهم الزمن إلى صفٍّ آخر … فنقف نحن في فناء الانتظار ، نلوّح بقلوبٍ موجوعة ، ونقول بإبتسامة ٍ مكسورة : إلى اللقاء .
أعجبُ لهذه المدرسة كيف تُدرِّس الفرح في حصة ، والحزن في التي تليها ، وكيف تمنحنا الشهادة أحيانًا في هيئة دمعة ، وأحيانًا في هيئة إبتسامة نجتْ من الغرق.
فيها نتعلّم أن الصبر ليس ضعفًا ، بل قوّة صامتة ، وأن العطاء لا يُقاس بما نمنح بل بما نصبر ، وأن الخسارة قد تكون درسَ نجاةٍ لا هزيمة .
مديرها الزمن لا يؤجّل ، ولا يمنح فرصة إعادة الامتحان ، يسير بثوانيه كما يشاء ، ويُغلق الأبواب حين يشاء ، ويعلّمنا أن اللحظة هي ملكنا الوحيد ، وأن التسويف سرقةٌ مقنّعة لأعمارنا.
وأستاذها القدر ، ذلك الحكيم الغامض ، يُربكنا أحيانًا بأسئلته ، ويُوجِعنا بإجاباته ، لكنه لا يُخطئ قطّ … فكل ما يمنعه عنّا ، يمنحه لنا بشكلٍ آخر ، ولو بعد حين .
تلاميذها نحن … نحمل على أكتافنا حقائب التجارب ، وفي جيوبنا تذاكر الوداع ، وعلى جباهنا خرائط الندم ، وفي صدورنا حدائق الرجاء.
نُخطئ فنُعاقَب ، ونصيب فننسى الشكر ، ونسقط فنكتشف أن الأرض لا تُوجِع بقدر ما تُوقظ .
وفي نهاية الدرس ، لا يُطلِق الجرس صوتَه ، بل تُطلق الأرواح تنهيدتها الأخيرة ، ونُسَلِّم دفاترنا مثقلةً بما كتبناه من فرحٍ وحزن ، ونغادر الفصول كما دخلنا : أفرادًا … لكننا نخرج وقد صرنا أكثر إنسانية .
الدنيا مدرسة … أجل ، أه ثم أه ثم أه … لكن أجمل ما فيها ليس الشهادة ، بل الحكمة ، وليس العبور ، بل الأثر ، وليس اللقاء ، بل الوفاء . فإن حان موعد الفراق ، فلا تقولوا وداعًا
… بل قولوا : إلى اللقاء ، ففي مدرسة العمر ، لا يضيع من كُتب إسمه في القلب .
وسيظلّ الودُّ حصّةً لا تُلغى ، والذكرى درسًا لا يُنسى ، والرجاء واجبًا منزليًّا على قلوبٍ تتعلّم كل يوم كيف تكون أكبر من الألم .
بقلم المعز غني عاشق الترحال وروح الاكتشاف
الدنيا مدرسة ، مديرها الزمن، وأستاذها القدر ، وتلاميذها نحن البشر


