حين نظر خلفه
بقلم/ حسين اسماعيل
في تمام الستين، جلس على الكرسي الهزّاز الذي اشتراه منذ عقدين ولم يجلس عليه يومًا، كانت النافذة نصف مفتوحة، والضوء المتسلل منها باهتًا كأن الشمس فقدت شغفها بالبشر، في الخارج، تمر الحياة… وفي الداخل، بدأ هو ينظر خلفه
اسمه كان فؤاد، ولم يعد يهم كثيرًا. كان موظفًا حكوميًا عاديًا، خدم الدولة كما يُخدم معلم قديم في مدرسة بلا أبواب، يدق الطباشير حتى تحترق أصابعه، ولا يسمعه أحد
كان دائمًا مؤدبًا، مسئولًا، عقلانيًا… لكنه لم يكن يومًا سعيدًا
في لحظة صمت عميق، سأل نفسه سؤالاً لم يجرؤ على مواجهته من قبل:
“هل هذه هي الحياة التي أردتها؟”
لم يكن بحاجة إلى وقتٍ طويل ليجيب:
لا
ليست هذه الحياة
لقد عاش عمره في وظيفة لم يحلم بها، لم يكن يحب الأوراق ولا الملفات ولا التوقيعات الباردة. كان يحلم أن يصبح رسامًا، أو عازف بيانو، أو حتى شاعرًا تافهًا يُلقي كلماته على الأرصفة
لكنه خاف. خاف من الفقر، من نظرة أبيه، من تهكم أصدقائه
فدخل الوظيفة… وظل فيها، حتى ذبل
تزوج من امرأة اختارها له أهله، لا تشبه ذوقه، ولا تفهم لغته، لكنّها “مناسبة” كما قيل له
وعاشا معًا ثلاثين عامًا من اللا حوار، واللا حب، واللا شيء
وأنجب أولادًا، غرباء. لم يجد نفسه في أيٍ منهم. أحدهم يتحدث بلغة لا يفهمها، وآخر يسخر من أحلامه القديمة، وثالث لا يتذكر عيد ميلاده
فكّر في كل ذلك، وشعر بطعنة لم تكن في صدره بل في عمره
الندم.. كان يجلس بجانبه على الكرسي الهزّاز، لا يعلّق، فقط ينظر إليه ويهزّ رأسه ببطء، كمن يقول:
“أخبرتك.”
فجأة، التفت فؤاد نحو السماء. لا لأنه تذكّر الله، بل لأنه شعر بشيء غريب…
نعم، خطوات قليلة فقط تفصله عن النهاية. ليس مهمًا أن يكون اليوم أو بعد سنوات. المهم أنه على الحافة، ينظر للخلف لا للأمام، للمرة الأولى بصدق
ومع كل هذا، ابتسم
نعم، ابتسم
ثم همس:
“ربما لم أحقق ما تمنيت… لكن ماذا لو كانت الحياة الحقيقية لم تبدأ بعد؟
ربما هذه مجرد مسودة، والنسخة النهائية تنتظرني هناك
ربما كل ما حُرمنا منه هنا، نلقاه هناك إن صدقنا، وإن صبرنا، وإن حمدنا””
تنهد طويلًا، ثم قال:
“الحمد لله”
ثم أغمض عينيه، وسمع للمرة الأولى منذ سنوات صوتًا داخليًا صادقًا يقول:
“ما فات لا يُستدرك، لكن ما هو آتٍ… يُؤمَّل”
وفي مكان ما بعيد، في ضوء لا يُرى، بدأ الكرسي الهزّاز يهدأ
حين نظر خلفه


