الشجرة السارية
سامر خالد منصور
من بعدكَ خرساء هي العصافير .. شاسعٌ كرسينا في الحديقة ، لم أعد أجلس عليه إلا نادراً .. تخيفني قضبانه الخشبية ، الممتدة من جهتكَ .. إلى ما لانهاية
كسككٍ لقطاراتٍ .. عجلاتها مناشيرٌ مدورة .. كقرص الساعة تمزق روحي .
دعني أشكو إليك .. شجرتنا .. التي كنا نُطيّرُ تحتها فراشات القُبل .. كل غصنٍ فيها ينغزني حتى أنزف ذكرى ، وكلما سألتها وأنا أقرأ ما نقشناه عليها .. بعيني .. بشفتي، بوجنتي .. أجابتني الريح .. بلسان كلبٍ .. لعقت به شَعري .
حجرية ٌ شجرتنا العجوز .. أحياناً
وحنونة ، لها بشرة ٌ كبشرة جدتي .. أحياناً أخرى
همستْ في أذني ذات مرة أنها ستتبعثر بين يدي كي أعيد ترتيبها .. كقاربٍ يُقلني إليك .. قالت أنها ستوحد أوراقها في شراعٍ أخضر وستحول كل عصافيرها إلى نوارس تريني الطريق .. قالت وقالت كثيراً .. فهربت منها ..
لذت بكرسينا في الحديقة .. لم يعد ثابتاً .. ولم أعد أقوى على الن هوض عنه ساعة أشاء .
تدلت من السماء حبال الحنين .. أضحى الكرسي أرجوحة .. ليس يرحمني .. يؤرجحني يزلزلني .. ويقذفني في سديم الذكريات ..
أصرخ وأنا في الهواء .. وليس في رئتي هواء .. ليتني أصطدم بحاجز الزمان ..
فأحطمه.. كما يحطمني..
قل لي..
لماذا أخذت ظل شجرتنا معك؟! وتركتني أذوب تحتها أين تفرش الظل الآن؟
أريد أن اشعر مجدداً بأصابعك تتقد شموعاً على حواف جسدي .. الذي أضحى رخامياً كشاهدة قبر ..
أنفاسك كلماتك .. هيا تعال أوقدها .
باردة هي الذكريات .. واخزٌ كرسي الحديقة .. واخزٌ كوردة .. مِقصلة ٌ كرسي الحقيقة !
هجرتني .. وفيك كُلي ، فسقطت أرضاً انطباقاً على ظلي .. أحفر الأرض
كي أقبرني .
لا أصدق أنك .. رحلت، هجرت !!
أذبلت في قلبك المحبة والمودة؟!
أتذكر همساتنا .. لمساتنا، رقصنا .. كنت تقول لي:
كقطرة ندى تشفُّ
عن صورة الشمس
ترقصين
كقطرة ندى على
ساق زهر الياسمين.
تتكدس على قلبي
أجنحة الفراش
حين تغيبين
وتوغل السماء مبتعدة
في عتم الفضا
أتذكر كيف كنا .. معاً نمزق الحرب والليل.. بجناحِ فراشة .
كنت تناديني «يا قمري» وكنت شمسي .. حَملت نورك وابتعدت ..
لم يبقَ من القمر إلا الحَجر .
ليتك تركت لي .. ظل الشجرة .. كفناً بملمس حُلم .. ليتهم لم يخبروني برحيلك .. ليتهم قالوا لي كذبة ما ، تستحق السُقيا وتجيد النمو .. ليتك تركت لي .. ظل الشجرة .. كي ألوذ به من ظلال أحلامي وآلامي .
عيناي اللتان كنت تحبهما .. أضحتا كُرتي عتم لفرط ما تشابكت فيهما الظلال .. آهٍ كم تتشابه الظلال ! فلكل الأشياء .. للعالم أجمع .. ظلٌّ من ليل .. ولك ظلٌّ من ضياء .. مالحةٌ هي السماء .. ولا أصابع تمسح طعمها عن شفاه عيوني .. يقولون ذلك الخط الأسود على صورتك ، مائلٌ .. وأقول مستقيمٌ
كعامود صليب .. مائلٌ عالمي ، محدودبٌ كي يحمله ..
كلما رأيت أحداً يبكي تدحرجت نحوي دموعه .. أغرقتني.
أنا من بعدك .. صنمٌ من ملح الدمع يعبدهُ الأسى.. أبكي وأصرخ بين كفيّ الليل.. وليس أقسى من أن تبكي أغنياتك التي لم تأت بعد .