الرئيسيةاخبارالفاشر تنزف والعالم أصم
اخبار

الفاشر تنزف والعالم أصم

الفاشر تنزف والعالم أصم

الفاشر تنزف والعالم أصم

بقلم حازم علي أدهم

 

في قلب غرب السودان، حيث تمتزج رمال دارفور بلون الدم، تقف مدينة الفاشر اليوم على حافة الهاوية، تحترق بصمت تحت أنظار عالمٍ فقد إحساسه بالإنسانية، وكأن ضمير البشرية أصيب بالصمم أمام أنين آلاف الأبرياء الذين يصرخون طلبًا للنجدة، ولا مجيب.

الفاشر، عاصمة شمال دارفور، التي كانت ذات يوم مهدًا للحضارة والتعايش، تحولت في أسابيع قليلة إلى ساحة موت مفتوح، ومقبرة جماعية تسكنها رائحة الرماد والخوف.

 

منذ اندلاع القتال العنيف، والمدينة تعيش كابوسًا يوميًا من القصف والدمار والجوع والعطش. الأسواق أُحرقت، المستشفيات دُمّرت، وشبكات الاتصالات انهارت. الأطفال يتسولون الماء من آبارٍ ملوثة، والنساء يركضن بحثًا عن مأوى بينما تُطلق القذائف فوق رؤوسهن.

لقد تجاوز المشهد حدود الحرب إلى ما يمكن تسميته إبادةً صامتة، تُرتكب في وضح النهار، بينما العالم يكتفي بالمشاهدة والتنديد اللفظي.

 

أصوات الاستغاثة تملأ الفضاء الافتراضي.

مقاطع صوتية وصور مُسرّبة لأمهات يبكين أبناءهن، ولأطفال يُنتشلون من تحت الركام بأيدي عارية.

كلها مشاهد تذكّرنا بكوارث إنسانية ظن العالم أنه تعلم منها الدرس، لكنه عاد ليكرر صمته نفسه، وكأنه لم يشهد من قبل مآسي رواندا والبوسنة وسوريا واليمن.

الفاشر اليوم تكتب سطرًا جديدًا في كتاب المأساة الإفريقية الطويل، حيث العجز الدولي هو العنوان الأبرز.

 

ما يجري في شمال دارفور ليس مجرد نزاع محلي بين فصائل متنازعة، بل جريمة حرب بكل المقاييس.

منظمات الأمم المتحدة نفسها أعلنت أن الوضع “كارثي”، وأن مئات الآلاف من المدنيين عالقون وسط النيران، بلا غذاء ولا دواء ولا حماية.

لكن رغم كل ذلك، لم يصدر عن المجتمع الدولي سوى بيانات الشجب والاستنكار، تلك الجمل الباردة التي لا تُسعف جائعًا ولا تُنقذ جريحًا.

 

في الوقت الذي تُباد فيه الأسر في الفاشر، يواصل العالم انشغاله بمصالحه ونزاعاته السياسية.

أين الضمير العالمي الذي يملأ الدنيا حديثًا عن حقوق الإنسان؟

أين الاتحاد الإفريقي، والمنظمات الإنسانية، والدول العربية التي لطالما أعلنت دعمها للسودان في المحافل؟

لقد صار السكوت اليوم تواطؤًا، والصمت جريمة، واللامبالاة خيانة للقيم الإنسانية نفسها.

 

إن ما يحدث في الفاشر يُعيد إلى الأذهان صور الخراب التي عصفت بدارفور في العقدين الماضيين، حين تحولت المنطقة إلى عنوانٍ للدمار والنزوح والمجاعة.

لكن هذه المرة، يبدو أن العالم قد تبلّد تمامًا، وكأن موت السودانيين لا يعني أحدًا.

حتى وسائل الإعلام العالمية، التي كانت تهتز لخبر سقوط قذيفة في مكان ما، تمرّ على أخبار السودان مرور الكرام، دون أن تمنحها ما تستحق من مساحة أو اهتمام.

 

وسط هذا المشهد القاتم، يبقى الإنسان السوداني هو البطل الحقيقي.

رغم الجوع والخوف، ما زالت هناك أيدٍ تبني أكواخًا من الطين لتأوي الأطفال، وما زال هناك من يوزع الماء على الجرحى، ومن يُخفي الأسر الهاربة من جحيم الحرب.

الفاشر، رغم نزيفها، ما زالت حيّة.

أرضها التي ارتوت بدماء الأبرياء ترفض أن تنكسر.

وإن كانت قد دُمّرت جدرانها، فقلوب أهلها لا تزال تقاوم، وعيونهم معلقة بالأفق تنتظر فجرًا جديدًا.

 

إن إنقاذ الفاشر اليوم ليس مسؤولية السودان وحده، بل مسؤولية العالم بأسره.

فما يجري هناك يُهدد بامتداد كارثة إنسانية قد تجرّ المنطقة كلها إلى فوضى لا تُحمد عقباها.

حين يُترك ملايين المدنيين للموت جوعًا أو بالقصف، فإننا لا نقتلهم فقط، بل نقتل فكرة العدالة ذاتها.

وكل من يصمت على هذه المأساة، يشارك في صنعها بطريقة أو بأخرى.

 

لقد آن الأوان أن يتحرك الضمير العالمي قبل فوات الأوان.

يجب فتح ممرات إنسانية عاجلة لإيصال المساعدات، وضمان حماية المدنيين، ووقف فوري لإطلاق النار.

وعلى المنظمات الدولية أن تُظهر شيئًا من الشجاعة الأخلاقية، وأن تُترجم وعودها إلى أفعال، لا أن تكتفي بالتصريحات والتقارير التي تُحفظ في الأدراج.

 

الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة سودانية تنزف

إنها جرح في قلب الإنسانية كلها

صرخةٌ مدوية في وجه عالمٍ فقد توازنه الأخلاقي

واختبارٌ حقيقي لكل من يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان

 

من ينجح في امتحان الفاشر، يثبت أنه إنسان

ومن يصمت، فقد خسر إنسانيته إلى الأبد

 

إنها ليست حربًا على أرض دارفور فقط

بل حرب على القيم

على الضمير

على إنسانية الإنسان نفسه

 

الفاشر لا تموت

بل تُذكّرنا بأن الشعوب التي تنزف لا تنكسر

وأن التاريخ، مهما طال صمته، سيكتب في النهاية أسماء من أنقذوا الأرواح

وأسماء من اكتفوا بالمشاهدة

الفاشر تنزف والعالم أصم

الفاشر تنزف والعالم أصم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *