النقد والحقد بين نور الإصلاح وظلمة الأحقاد
هنا نابل بقلم المعز غني
في زمنٍ التَبَسَت فيه المعاني ، واختلطت فيه النيّات ، تاه كثيرون بين مفهومٍ نبيلٍ هو النقد ، وشعورٍ مظلمٍ هو الحقد.
فصار كلُّ صوتٍ مخلصٍ يُصنَّف عداوة ، وكلُّ كلمةِ إصلاحٍ تُحسَب كراهية ، حتى غدت الحقيقة غريبةً في موطنها ، وصار المدافع عنها مُتَّهَماً في صدقه .
النقد – في جوهره – نورٌ يُسلَّط على العتمة ليهدي الطريق ، ومرآةٌ صافيةٌ تُظهر العيوب لا للتشهير بها ، بل ليُشرع باب إصلاحها.
أمّا الحقد فهو نارٌ في الصدر ، لا تبتغي إلا احتراق الآخر ، وتمنّي زوال نعمته ولو لم تزد في نعمتها شيئًا بينهما بونٌ شاسعٌ كالشمس والظل ؛ هذا يحيي، وذاك يُفني .
غير أنّ كثيرًا من الناس – حين تُوجَّه إليهم سهام النقد – يختصرون الطريق ، ويتّخذون من تهمة “الحقد” درعًا يصدّون به أي مساءلة وهي حيلة قديمة متجدّدة : إذا عجزت عن الردّ ، أطعن في النيّات ؛ وإذا ضاقت بك الحُجّة ، وسّع دائرة الاتهام.
هكذا يصير الناقد حاسدًا ، والمصلح مُفسدًا ، والناصح متربّصًا.
وفي الغالب ، من يُكثرون الصراخ بالحقد هم أولئك الذين أعتلوا منصّاتٍ لا تُشبه قاماتهم ، وتقلّدوا أوسمةً لم تُفصَّل على مقاس أستحقاقهم.
وصلوا إمّا بالخداع أو بالمجاملة أو “بشراء الأصوات” ، ثم يطالبون الناس بالصمت إجلالًا لمواقع لم يُجِلّوها حقَّ إجلالها.
فإذا قيل إنّ المال العام أمانةٌ لا يُستباح ، وإنّ المنصب مسؤوليةٌ لا غنيمة ، نادى أصحاب الكراسي: “حسد وحقد!” وكأنّ المطالبة بالعدل جريمة .
النقد حين يطرق باب السياسة ، لا يفعل ذلك لهدم البيت ، بل لترميمه.
فإذا أنتقدنا وصول نائبٍ بالمال لا بالصوت الحرّ ؛ أو إعتراضنا على تسلّل غير المؤهّلين إلى إعلامٍ يصنع وعي الأمّة ؛ أو نبهّنا إلى عبثٍ بالصحافة ممّن لا يُحسن القراءة والكتابة ؛ فذلك ليس ضغينةً على أشخاص ، بل غيرةً على مؤسّسات.
لأنّ الإعلام ليس لعبةً للأطفال ، ولا السياسة ساحةً للمغامرين ، ولا الصحافة دكّانًا بلا معايير .
وقِس على ذلك سائر الحقول : الفنّ ، والرياضة ، والاقتصاد ، والتسويق … هل يُعقل أن يُداوي مريضًا من لم يتعلّم الطب؟ أو يبني جسرًا من لم يدرس الهندسة؟ وهل يُصلح عقول الناس من لم يُصلِح لغته؟ إنّ لكلّ مجالٍ شروطه ، ولكلّ مهنةٍ قدسيتها ، وإذا تهاونّا فيها – باسم التسامح الكاذب – صنعنا فوضى متقنة الصنع .
إنّ أخطر ما يُصيب المجتمعات أن تُكافئ “الفهلوة” وتُهمِّش الكفاءة ، وأن تُعلى العلاقات وتُسقط الشهادات ، وأن تُقدّم الضجيج على المعرفة.
عندها، يضمحلّ التعليم في عيون أبنائه ، وتغدو الجهود عبئًا لا قيمة له ، ويصير الوصول مسألةَ حظٍّ لا إستحقاق ، فيتسلّل الإحباط إلى القلوب كما يتسلّل الصدأ إلى الحديد .
لسنا نحقد حين نُنكر الباطل ، ولا نغار حين نطالب بالحق ، ولا نغضب حين نرفع راية المعايير .
إنّنا فقط نُحبّ أن تكون الأشياء في مواضعها ، وأن تتصدّر الكفاءة مشهدَ التكريم ولو كان أولئك أهلًا لما نالوا – لصفّقنا لهم ، ورفعناهم على الأكتاف ؛ لأنّ المبدع الحقيقي لا يخاف النقد ، بل يمتطيه سُلَّمًا إلى الكمال .
فيا أهل المناصب : إن كان نقدنا يؤلمكم فذلك لأنّه يلامس مواضع الوجع.
ويا أهل الأقلام : لا تتركوا النور يخفت خوفًا من تهمةٍ زائفة. تكلّموا …
فالصمت حين يطول ، يصير شراكةً في الخطأ .
وفي الختام : النقد ليس معول هدم ، بل أدوات بناء ؛ والحقد ليس رأيًا ، بل مرضًا.
فطوبى لمن عرف الفرق ، وسعى إلى الإصلاح دون أن يُساوم على الحقيقة.
النقد والحقد بين نور الإصلاح وظلمة الأحقاد
بقلم المعز غني عاشق الترحال وروح الاكتشاف


