حول النبش في الماضي:
د. حنان حسن مصطفي
يقول قائل عن جهلٍ معذور به:
لماذا تنبشون في الماضي، فالجواب كما قال أئمتنا أن تنشغل بحاضرك عن ماضيك، وتركز في الاستعداد لغدك، ودعك من استدعاء الماضي.
وللأسف هذا قولٌ فيه خلطٌ كبير يجب توضيحه، إذ أن الماضي ليس واحدًا ينفعه قانون عام بل هو ثلاثة أنواع:
١- ماضٍ منصرم: قد زال ألمه، ومضى أثره، وصار فقط محفورًا في الذكرى، باردًا محنطًا في توابيت الأمس.
وهذا الماضي نبشه قد يعد عبثًا ما دام نبشه يشكل إلهاءً عن حاضرك، وتنصلًا من مسؤولية القيام بدورك، وإمعانًا في الاستياء وإلقاء اللوم على الآخرين.
وهذا النوع من الماضي لن تجد عاقلًا ناهيك عن نفسانيًا يدعوك لنبشه أو استدعائه وإحياء مواته! فليس ذلك سوى رفاهية لا نملك في حياتنا الوقت الكافي للغوص فيها.
٢- ماضٍ قد انقضى ولكن لا يزال أثره باقيًا في تحريكه للسلوك الإنساني: بمعنى أن الفقد الحادث فيه لا يزال يتحكم في تصرفاتك، والألم الذي نالك هناك لا يزال يهيمن على فهلك ويمنعك الحرية (التي هي مناط المسؤولية والتكليف الرباني نفسه)
وهذا الماضي قد انقضى زمنًا ولكنه حاضرٌ بتأثيره، ومن ثم تصنيفه كماضٍ تام هو خلل في النظر أصلًا.
فتخيل مثلًا أن شخصًا مر بحادث منذ سنة قد أدى لتشوه في عظامه، ويحتاج اجراء جراحات متعددة لاستعدال العظام وترميمها، فكيف بجراح يقول له: دعك منهم، الحادثة قديمة، فقط انشغل بتقوية عضلاتك اليوم!
أي هراء هذا، الذي يجعل الماضي ماضيًا فقط بفعل انقضاء زمن الحدث غافلًا عن تأثير ممتد يتغول ويتوغل في حاضرنا ويعيق استخدام الرجل لذراعه!
ولا عجب أن يشير الطبيب الحذق إلى ضرورة زيارة موطن التشوه الحادث بفعل الحادثة القديمة وتعديله مهما استغرقنا ذلك.
وتلك سنة الله في أجسادنا والتي لا تتبدل في نفوسنا
فبعض ماضينا لا يزال عالقًا، متوغلًا في حاضرنا، يلقي بظلاله على يومنا وغدنا.
فالحذق من يقول: ربما نحتاج زيارة موضع التشوه رغم كونه يرتبط بحادثة انقضى زمنها لتعديله.
وهذا النوع من الماضي هو مناط العمل النفساني.
٣- ماضٍ بين الاثنين: كأن ينقضي زمنه وربما ينقطع تأثيره الفعال في حاضرنا، ولكنه يؤرقنا متى حفزت استذكاره محفزات بعينها.
وهو كذلك لا يخضع لمبدأ الضرورة، فهو قد ساهم في تكويننا ومنحنا مذاقات لطيف واسع من المشاعر ولكنه مجمد في حالة من الكمون واللانشاط التي لا يكسرها إلا محفزات
تمامًا كندبة قديمة لا توجعنا إلا عند الضغط عليها، أو كيس دهني في منطقة غير مؤذية، أو رصاصة قديمة قد صنعت أجسادنا حولها تكلسات حافظة وانتهى الأمر، نتحسسها فنتذكر حربها ولكنها لم تعد تؤلمنا.
وإنا فيه بالخيار بين أن نستأصلها (تحسينًا) أو نتركها مركزين على عدم تأثيرها على وظيفة العضو المصاب.
وهكذا في نفوسنا، بعض ماضينا لا يؤلم إلا وقت الذكرى أو المرور بمحفز شبيه، وإنا فيه بالخيار.
لذا حين يأتي شخص ليعمم النصح ويقول (دعك من الماضي ولا تنبشه) فنسأل أنفسنا (عن أي ماضً يتحدث؟)
والعلاج النفساني والخطاب النفساني المتزن إنما يتعلق بالنوع الثاني من الماضي (المنقضي زمنًا والممتد أثرًا)
ومن النزق أن ندعو لتجاهله ظنًا أنها ينطبق عليه ما ينطبق على شقيقيه.
حول النبش في الماضي:
د. حنان حسن مصطفي