الرئيسيةمنوعاتحين يشاء القدر
منوعات

حين يشاء القدر

حين يشاء القدر

حين يشاء القدر

 بقلم: محمود سعيد برغش

لم تكن “سارة” تؤمن بالصدف، كانت ترى أن كل ما يحدث في الحياة مُقدّر بعناية إلهية لا تخطئ الحساب.

فهي ابنة الأيام القاسية، والطبيبة التي خبّأت ضعفها خلف معطفٍ أبيضٍ وابتسامةٍ شاحبة.

رحل عنها خطيبها ليلة كتب الكتاب طمعًا في السفر والمال، فكسرت الأقدار جناح قلبها، وأغلقَت أمامها أبواب الحلم.

لكن القدر لا يُغلق بابًا إلا ليفتح آخر…

وفي ليلة ممطرة، اصطدمت سيارتها بسيارةٍ أخرى عند تقاطع شارعٍ مزدحم.

نزل الرجل من سيارته بخوفٍ صادق، وعيناه تمتلئان بالقلق:

– “حضرتك كويسة؟ أنا آسف جدًا، ما شفتش الإشارة.”

نظرت إليه للحظةٍ بدت كأنها دهْر،

فشعرت أن الزمن توقف، وأن شيئًا في أعماقها يعرف هذا الوجه من قبل.

قالت بهدوء: “الحمد لله، مجرد ارتباك بسيط.”

لم تكن تعلم أن هذا الرجل، “عمر”، سيغيّر مسار حياتها.

مهندس ناجح عاد من الغربة بعد وفاة والده، ليكتشف أن شركته العائلية تتهاوى بسبب خيانةٍ مالية تورّط فيها أحد المقربين.

ومع مرور الأيام، تتقاطع دروبهما مرارًا، فتتسلل المودة بينهما كنسمةٍ خجولةٍ بعد عاصفةٍ طويلة.

غير أن القدر لم يكشف كل أوراقه بعد.

في أحد الأيام، وبينما كانت سارة تراجع ملفاتٍ قديمة في المستشفى، وقع بصرها على اسمٍ لم تنسه قط:

والدها — الموظف البسيط — الذي فُصل ظلمًا قبل عشرين عامًا، بسبب تقريرٍ موقّع باسم والد عمر!

تجمّد الدم في عروقها.

هل يعقل أن يكون الرجل الذي أحبّته هو ابن من ظلمها؟

وقفت بين نارين: نار القلب ونار العدالة.

واجهته بالحقيقة، فتبدلت ملامحه إلى ذهولٍ وندمٍ صادق، وقال بصوتٍ مبحوح:

– “مش أنا اللي ظلم، بس يمكن ربنا رجّعني علشان أعتذر باسم اللي ظلم.”

حينها بكت سارة، لا حزنًا ولا فرحًا، بل رهبةً من عدل الله الذي يربط خيوط الحياة بخيوط الرحمة.

وأدرك الاثنان أن القدر لا ينتقم، بل يُصلح ما أفسده الزمن بطرقٍ لا تخطر على بال.

بعد أشهر قليلة، تزوجا في حفلٍ بسيط، لا صخب فيه ولا مظهر، لكنه مملوء بالسكينة والرضا.

وحين سألتها صديقتها يوم الزفاف:

– “كنتي متوقعة النهاية دي؟”

ابتسمت سارة وقالت:

– “لما يشاء القدر، لا يبقى في القلب إلا الرضا.”

إن ما جرى بين سارة وعمر ليس مجرد صدفةٍ بشرية، بل هو مشهد من مشاهد القضاء والقدر الذي قال الله تعالى فيه:

> ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]

فكل ما يجري في هذه الدنيا مكتوب قبل أن تُخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما قال النبي ﷺ:

“كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة” (رواه مسلم).

وفي القصة تتجلّى حكمة قوله تعالى:

> ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]

فما حسبته سارة شرًّا كان بابًا لفرجٍ ورحمةٍ لم تكن تدركها.

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

> “نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.”

أي أننا مهما ظننا أننا نختار، فنحن نسير في طريقٍ رسمه الله لنا بحكمته وعدله.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله:

> “ما شئتُ كان وإن لم أشأ، وما شئتَ إن لم تشأ لم يكن، خلقت العباد لما قد علمت، ففي العلم يجري الفتى والمسنّ.”

فالشرع والعلماء أجمعوا أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يكتمل إيمان العبد إلا به، وهو ما يُورث في القلب طمأنينةً لا يزعزعها الألم.

وفي ختام القصة، نستلهم قول الله عز وجل:

> ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6]

فكل ضيقٍ يحمل في جوفه فرجًا، وكل دمعةٍ هي مقدمة لابتسامةٍ يرسلها القدر في حينه.

وهنا 

قد يتأخر العدل، لكنه لا يغيبحين يشاء القدر

وقد يطول الطريق، لكن من رضي بقضاء الله، كتب الله له النهاية الأجمل…

فحين يشاء القدر، ينقلب الحزن إلى سكينة، والابتلاء إلى عطاء.

حين يشاء القدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *