حين يصحو العالم من ضجيجه
بقلم/نشأت البسيوني
في هذا الزمن الذي يركض فيه الجميع بلا توقف ويظن كل انسان ان السرعه هي الحقيقه الوحيده يقف الانسان احيانا امام نفسه فجأه بلا مقدمات فيكتشف ان كل ما كان يطارده لم يكن هو الهدف وان القلب كان يريد شيئا اخر لم يسمعه احد وسط الزحام العالم اليوم لا ينقصه العلم ولا تنقصه الادوات لكنه ينقصه الاصغاء ينقصه ان يتوقف لحظه ليفهم ماذا يحدث في الداخل قبل ان يشرح ما
يجري في الخارج المدن تكبر والطرق تتسع والشاشات تزداد لمعانا لكن الانسان من الداخل يصغر شيئا فشيئا يضيق صدره وتكثر اسئلته ويخاف ان ينطق بها فيبتسم بينما قلبه متعب ويواصل بينما روحه تريد الجلوس صار النجاح شكلا مرسوما وصارت القيم شعارات ترفع وصار الصمت مهاره يتقنها الجميع حتى لا يخسروا مقاعدهم في القطار السريع في زوايا الحياه البعيده عن الضوء
يعيش اناس لم يتعلموا كيف يصرخون لكنهم يعرفون جيدا كيف يتحملون ينهضون كل صباح ويواجهون اياما متشابهه ويصنعون من القليل معنى ومن التعب كرامه ومن الانتظار صبرا هؤلاء لا تظهر صورهم على الشاشات ولا تكتب اسماؤهم في العناوين لكن عليهم يقوم ثقل العالم وبصبرهم تستمر الحياه دون ان تنهار
الحقيقه ان الانسان لم يكن يوما ضعيفا كما يظن بل كان دائما
محاصرا بما يطلب منه ان يكونه لا بما هو عليه فعلا طلبوا منه ان يكون مثاليا بلا اخطاء قويا بلا دموع سريعا بلا تردد فتعلم ان يخفي كسوره وان يبتلع تعبه وان يكمل الطريق حتى وهو لا يعرف الى اين لكن اللحظه الاكثر صدقا هي تلك التي يجلس فيها الانسان مع نفسه بلا اقنعه حين يعترف انه خائف انه متعب انه مشتاق انه يريد ان يبطئ الخطوه هناك فقط يبدأ الشفاء وهناك فقط يولد
وعي جديد لا يقوم على الهروب بل على الفهم ولا يعتمد على الانكار بل على المواجهه العالم لا يحتاج خطبا اطول ولا ضجيجا اعلى بل يحتاج قلوبا تفهم وعقولا تهدأ واناسا يعيدون تعريف القوه على انها صدق لا قسوه واستمرار لا سباق يحتاج ان نعيد النظر في كل ما ظنناه بديهيات وان نسأل انفسنا بصمت هل نحن نعيش كما نريد ام كما يريدنا الاخرون وحين يفهم الانسان نفسه تتغير علاقته
بكل شيء بالوقت وبالناس وبالنجاح وبالخساره يدرك ان بعض الانتصارات في التخلي وان بعض الربح في الهدوء وان اعظم الرحلات ليست تلك التي نقطع فيها مسافات بل التي نعود فيها الى ذواتنا هذا ليس خطابا ولا دعوه ولا شكوى هذا تذكير هادئ ان الانسان ما زال قادرا على الفهم وان الحياه رغم قسوتها لم تغلق باب المعنى وان من يملك شجاعه التوقف يملك ايضا فرصه البدايه
من جديد ومن هنا تبدأ الحكاية الاعمق حكاية انسان لم يعد يريد ان يثبت شيئا لاحد انسان اكتفى بان يكون حقيقيا حتى لو خسر تصفيق العابرين فالحياه لا تقاس بما نعرضه على الاخرين بل بما نحتمله حين نكون وحدنا كثيرون يظنون ان الصمود هو ان تظل واقفا مهما انكسر قلبك لكن الصمود الحقيقي ان تعرف متى تجلس ومتى تستريح ومتى تعترف ان الحمل كان اثقل من طاقتك لان
الاعتراف ليس هزيمه بل شجاعه نادره لا يمتلكها الا من تعب فعلا
السنوات لا تمر علينا عبثا هي تترك فينا علامات غير مرئيه تغير نبره الصوت وطريقه النظر وتجعلنا نفهم الاشياء دون شرح نصل الى مرحله لا نحتاج فيها الى ضجيج لنشعر باننا احياء يكفينا سلام داخلي بسيط يكفينا يوم عادي بلا صدمات العالم سيظل يطلب منك المزيد وقتك جهدك صبرك ابتسامتك لكن الحكمه ان تعرف
ماذا تعطي وماذا تحتفظ به لنفسك فليس كل ما يطلب يستحق وليس كل طريق يستوجب الاستمرار وحين تهدأ النفس يعود المعنى تدريجيا تعود التفاصيل الصغيره لتصنع الفارق ضوء صباح هادئ كلمه صادقه نظره فهم نكتشف ان الحياه لم تكن قاسيه بقدر ما كنا نحن قساة على انفسنا لا يبقى مع الانسان الا ما كان حقيقيا اللحظات التي عاشها بصدق والاختيارات التي تشبهه والاشخاص
الذين رأوه كما هو لا كما ارادوا وكل ما عدا ذلك يذوب مع الوقت كضجيج لم يكن ضروريا من الاساس وهكذا يصحو العالم حقا لا حين يتغير كل شيء من حولنا بل حين نفهم ان التغيير الاهم كان بداخلنا طوال الوقت وان الانسان حين يصالح نفسه لا يعود محتاجا لاقناع احد ولا للهروب من شيء لانه اخيرا وصل الى تلك النقطه الهادئه التي لا يسمع فيها سوى صوته الحقيقي وهو يقول كفايه جري كفايه ضجيج الان فقط يمكنني ان اعيش
حين يصحو العالم من ضجيجه


