دراسة نقدية عن قصيدة
” أسافر في عينيك ”
المنشورة في مجلة ” المجلة العربية ” الورقيةالسعودية
للناقد الجزائري
الدكتور . فاضلي محمد يزيد
أسَافرُ في عيْنيكِ …
للشاعر.عباس محمود عامر
تنْظرينَ إلى
أرى ريْشَةَ الضّوءِ في نظْرتِكْ
ترْسمُ السَّرَّ في لوْحةِ الأعْينِ البَارقةْ
يتفَسّرُ معْناهُ في همسَاتِ الزَّهرْ
يتسَترُ صوْتُ النّداءِ وراءَ امْتدادِ النّظرْ ،
فيصفّقُ فيْنَا شُعورُ التَّلاقِي ،
ويشْدُو الوَترْ …
*****
تنْظرينَ إلى
أُسَافرُ عبر السَّنَا
لصروحِ المُنَى .. ببلادِ الصَّدَى المنْتظِرْ
أتحرَّرُ في جُزرِ العشْقِ من حلقَاتِ الحفَرْ
أتعبَّدُ في فجْرِ عيْنيكِ
يثْوى بقلبي الضَّجرْ
أرْشفُ الحُبَّ منْ حلمَاتِ المَطرْ …
*****
تنْظرينَ إلى
فأفْهمُ كلَّ معَانِي الصُّورْ ،
وتقلُّ المشَاعرُ أشْرعةً منْ غُصونِ الأمَلْ
تُبْحرُ في يمِّ حُلْمِي الصّبىّ ،
ويسَافرُ عُمرِي ،
وفي رفْقتِي أنتِ يحْلو السَّفرْ …
*****
تنْظرينَ إلى
فيقْطنُ عُمرِي الضّيَا المنْتَشرْ
أبْحرُ في لججِ النَظراتِ لعمْقِ الأجَلْ
يصْبحُ النَّهرُ بحراً بلا منْتهَى
أبْحرُ في حقبي
أتخَلّلُ خصبَ الزّمنْ ،
وأدَاعبُ فيكِ على مددِ البَحْرِ
وجْهَ القَمرْ …
*****
السفرُ عموماً- الشاعر الكبير عباس محمود عامر-يرتبط عادة ًفي حِسِّنا برحيل موجاتٍ من مشاعر الاشتياق واللوعةِ التي يُورِّثـُها حبلُ البـِين والاغتراب،والتي ما تفتأ تجعلُ من السفر مَضـنـَّة ًلنثر القريض وبسْطِ اللواعج…
فكيفَ إذن،لو كان السفرُ إلى تلكَ اللجيْناتِ اللواتي يزرعُهُنَّ الحَـــوَرُ في أقصى بؤر البهاء والجمال،يختزلن بأهدابهن-وهن اللحظ ُوالطرْفُ-ماهياتِ اللوعةِ في قلب غريبٍ مسافرٍ،ليسَ له من عزاءٍ-في غربة السفر والارتحال-إلا الارتواء من مَعينهن…؟؟!!!
وكيفَ إذا كان المسافرُ شاعراً،رصيناً في لغته،رقيقاً في شاعريته،رهيفاً في وصفِه،شفيفاً في انسيابه،سَلِساً مَرناً في مجازاته وإيقاعاته…ليسَ له من خلاصةِ الجمال الشعري إلا أبهاه،ولا من حِبْكةِ العباراتِ إلا أجزَلـَها وأمتنـَها وأروَعَها…؟؟!!!
أحياناً – أقرأ لمبدعين كُـــثـُر…فتهزني معاني المشاعر والأحاسيس التي يحملونها،لأنها صادقة ٌ،جيَّاشة ٌ،تنضحُ بالحنان والرقةِ والدفاءة،ولكنِّي أصطدمُ بتلكَ المشاعر والأحاسيس وهي محمولة ٌعلى صفيحٍ لغويٍّ ونحويٍّ وإملائيٍّ وبلاغيٍّ في غايةِ التغليط والتشويه،فتتأذى قابليتي الإبداعية أيُّمَا تأذ ٍّ،وبالكاد أغالبُ امتعاضي الدفين من مأساةِ المبنى بما هو موجودٌ من جمال المعنى،ولا حِيــــلــة…!!!
رحلتك الجميلة- شاعرى المبدع الكبير-إلى منتجع الأحداق،كانتْ أمامي أشبَهَ ما تكونُ بعربةِ فارس نبيلٍ،استقلَّتْ درباً قزحيًّا،ترامتْ على حواشيه أفانينُ من زنابقَ ونراجسَ وأقاحينَ ورياحينَ شتـــى..ولمْ أجدْ على امتداد الدرب الذي أسكرنا بجماله إلا ريشة َضوءٍ مُشِعٍّ..ولوحة ًمرسومة ًبعنايةٍ لسر البريق يُرى فقط-وفقط-في وشوشةِ الهمسات الزهرية..كلُّ ذلكَ يحدثُ كمراسيم احتفال بهيج وراء امتدادٍ أرجوانيٍّ يفسحُهُ النظر…!!!
دربٌ تتزاحَمُ فيه مجازاتٌ رائقة ، تكادُ العيونُ الهَيْمَاءُ تتقاطرُ بها في مشاعرنا،فتنبتُ فيها عيونٌ وعيونٌ…!!!
راءَاتـُكَ الساكنة هذه- -تصنعُ فينا نهاياتٍ لذيذة ً،تصطخبُ بإيقاعِها اللذيذ في مَلـَكاتنا،فتتكسرُ بلوراتـُها كما تتكسرُ قطراتُ الموجةِ البحريةِ على صخرةٍ بحريةٍ في ليلةٍ قمراءَ،لا ترى أحداقـُنا الغرثـــى منها غيْرَ ارتعاش البريق على امتداد الأفـــق…!!!
(…يتفسرُ معناهُ في همسات الزهــــرْ….وراءَ امتداد المطـــرْ…ويشدو الوتــرْ…ببلاد الصدى المنتظـــرْ….من حلقات الحفــــرْ….من حلمات المطـــرْ…معاني الصـــورْ….يحلو السفــــرْ….)…..
ياهْ شاعرى الكبير…!!!
أيُّ انتشاءٍ وأيَّـــة ُفتــــوحٍ هذه التي ترتدُّ مع إيقاعاتِ الرَّاءِ السَّـــكْرى،المزدانة بسكونها البهيِّ الرائق…؟؟!!!
إننا حين نرحلُ مع إيقاعاتها المتسقة،لا نلبَثُ حتى نتحسَّسَها نبضة ًفي خوافقنا،تتساوَقُ معها وتخفقُ في أجراسِها…!!!
آه…تذكرتُ شيئاً..!!
عندما كنا ندرس المذاهبَ الأدبية المعاصرة وتأثيرها المباشر على إرث أدبائنا العرب ( كُتاباً كانوا أو شعراءَ )…أذكرُ أننا تعرضنا-في سياحة أدبيةٍ وتحليليةٍ طويلةٍ-إلى الشعراء ( الرومانسيين العرب المعاصرين ) وإلى جماعة ( أبوللو ) المعروفة التي أسسها وجمعَ أقطابَها المرحوم الشاعر الأديب الكبير أحمد زكي أبو شادي إلى جانب أمير الشعراء أحمد شوقي والشاعر الكبير إبراهيم ناجي الذي كان وكيلاً لها…
لقد كان شاعرُ الخضراء الكبير أبو القاسم الشابي-ولعلكَ أدرى سيدي-قطباً من أقطابها،وعلـَماً بارزا من أعلامها…
وعندما درسنا ديوانه ( أغاني الحياة )، كانتْ قصيدته الجبارة ( إرادة الحياة ) تسحرُنا في معانيها الجذلى وإيقاعاتِها السكـــرَى…
إن تلكَ الراء الساكنة التي تختتم رَويَّ القصيدة،هي كلُّ الصولفاج الجميل الذي حمَل كل المعاني الرائقة في القصيدة…!!!
قلبي يعُرُقُ نبضهُ كلما شدوتُ القصيدة واستمرأتُ تلكَ الراء..!!!
ولمْ أستغربْ أبداً ونحن نقرأ في دراساتنا النقدية ما قاله أستاذنا الكبير الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه ( المدخل إلى النقد الحديث ) عن القصيدة وصاحبها ؛ (( من أن تلكَ الراء الساكنة في قصيد إرادة الحياة أمة ٌ شعرية ٌ،قائمة ٌ بذاتِها،ولو لمِ يقل الشابي غيْرَها لكفاهُ جمـــالاً…!!! ))…
تأملْ هذه المقاطعَ :
هو الكون حيٌّ يحب الحياة ** ويحتقر الميْت مهــــــــما كَبُــرْ
وقال لي الغاب في رقــــــة ** محببة مثل خفــــــــق الوتــــــرْ
يجيء الشتاءُ شتاءُ الضباب ** شتاءُ الثلوج شتــــاءُ المَطــــرْ
فينطفئ السحرُ سِحرُ الغصون ** وسِحر الزهور وسِحْر الثمرْ
وسِحر السماء الشجي الوديع ** وسحر المروج الشهي العَطِرْ
وتهوي الغصون وأوراقها ** وأزهار عهِـــدِ حبـــــيبٍ نضِـــرْ
ويفنى الجميع كحلم بديع ** تألــــق في مهــــــجـــةٍ واندثــــرْ
وتبقى الغصون التي حملت ** ذخيرة عُمْـــــرٍ جميلٍ عَـــبَــــرْ
معانقة وهي تحت الضباب ** وتحـــت الثلوج وتحــــت المَدَرْ
لطيف الحياة الذي لا يُمَلُّ ** وقـــــلب الربيع الشذيِّ النضِــــرْ
وحالمة بأغاني الطيور ** وعِــــطر الزهور وطــــعم المَطـَـــرْ
أظنكَ- وأنت الشاعر-أدركتْ كمْ لتلكَ الراءِ مِنْ سِحْر ورونق وإيقاع..وكمْ لها من ترجيعٍ جميل،ترقص معها المعاني الرومانسية الخلابة التي أودَعها الشابي قلبَ قصيدته….
إن راءاتِكَ الساكنة في سفريتكَ الرائقة – توأمَة ٌساحرة لراءاتِ أبي القاسم…الشبقُ الشعري سَـــوَاءٌ واللهِ…!!!!
فأكرمْ بكَ من شاعر..وأعظمْ بها من قصيدةٍ أجدتَ السفرَ فيها..فأحسنتَ المغادرة…وأحسنتَ الإقلاعَ…وأحسنتَ الرحلة…وأحسنتَ الوصول…!!!
وأملي أن لا تبخل علينا دائما بهكذا روائع
د.فاضلي محمد يزيد
الجزائر