مشهد درامي رائع مليان ابداعى و تميز:
بقلم/ د. حنان حسن مصطفي
المشهد:
قاعة محاضرات قديمة، يجلس فرويد على مقعد خشبي، وأمامه لاكان الذي يصرّ على أنّه وريث التحليل النفسي. الجمهور صامت، ينتظر الشرارة.
فرويد:
يا جاك، لقد سمعت كثيراً عنك. يقولون إنك تتمرد على أسس التحليل النفسي التي وضعتها بيدي، وتلوّح للناس بأنك اكتشفت سرّاً أعظم. أليس هذا غروراً مقنّعاً بلسان فلسفي؟
لاكان (بابتسامة ساخرة):
غرور؟ بل وفاء لك. لكنني رفضت أن أترك تلاميذك يحوّلون التحليل النفسي إلى طب علاجي سطحي. أنت كشفت اللاوعي، وأنا أعدت إليه لغته. قلتَ أنت: اللاوعي يُشبه اللغة. وأنا أقول: اللاوعي بُنيَ مثل اللغة. هناك فرق جوهري.
فرويد (يضرب الطاولة بعصاه):
أيّ لغة يا لاكان؟! اللاوعي عندي مسرح للرغبات المكبوتة، للصراع بين الهو والأنا والأنا الأعلى. هو طاقة جنسية تتنكر بأقنعة، وتعود في الأحلام والهفوات. هل تظنه مجرد تراكيب لغوية؟
لاكان:
وأنت أسير مفهوم “الليبيدو”. جعلتَ الجنس المفتاح الوحيد لكل باب. لكن الإنسان ليس جسداً شهوانياً فقط، بل كائناً رمزياً، يعيش داخل شبكة من الدوال. الرغبة ليست في “الإشباع” كما زعمتَ، بل في “النقص”، في ذلك الفجوة التي لا تمتلئ أبداً.
فرويد (بتحدٍّ):
النقص؟ هذا تلاعب بالكلمات. الإنسان يبحث عن اللذة، عن التنفيس. كل عصاب، كل هوس، كل فوبيا تعود إلى كبت جنسي. ما تسميه “النقص” ما هو إلا الوجه الآخر لرغبة لم تُشبع.
لاكان (بصوت مرتفع):
وهذا ما يجعلك سجين بيولوجيا القرن التاسع عشر! أنت اختزلت اللاوعي في “مكبوت” واحد. لكنني أقول: الرغبة تولد من “الآخر الكبير”، من اللغة، من القانون، من النظام الرمزي الذي يسبق الفرد. الطفل حين يقول “أنا”، فهو يتكلم بلغة ليست له، بل لغة الآخر.
فرويد (بغضب):
بل أنت تقتل الفرد في متاهة المصطلحات. ماذا تفيد المريض بحديثك عن “الآخر الكبير”؟! أنا جلست مع مرضاي، حللت أحلامهم، حررتهم من قيود الهستيريا. وأنت؟ تجلس على منصة وتلقي أحاجي فلسفية!
لاكان (بتهكم):
أنت حررتهم؟ أم أسرتهم في أريكتك؟ جعلت المحلل سيّداً والمريض عبداً يبوح بما يرضيك. أما أنا، فأجعل المريض يواجه كلماته الخاصة، أُعيد إليه صدى صوته، لأكشف له أن ما يحكمه ليس هو بل “الدال”.
فرويد:
إنك تفرّغ اللاوعي من ماديته. اللاوعي عندي ليس لغزاً، بل حقيقة نفسية – بيولوجية. ألم ترَ كيف ينهار العصاب بمجرد رفع الكبت؟
لاكان:
وهل تظن أن الكبت يزول؟! الكبت بنية دائمة. الرغبة تعود دائماً بشكل ملتوي، في زلة لسان، في نكتة، في وهم. أنت حلمت بتفسير نهائي، وأنا أقول: لا يوجد تفسير نهائي. اللاوعي لا ينكشف إلا في الشقوق، في التعثر، في الانزلاق.
فرويد (مستهزئاً):
إذن أنت تبني علماً على الفراغ! ممارستك أشبه بسحر لغوي.
لاكان (منفجراً):
وأنت تختبئ خلف حتمية بيولوجية ميتة! جعلت الإنسان آلة غريزية. بينما الحقيقة أن الإنسان مسكون بالآخر، بالرمز، بالاختلاف. أنت أردت أن تملك اللاوعي، أما أنا فأقول: اللاوعي يتكلم بنا، لا نملكه أبداً!
فرويد (يضحك بمرارة):
تتكلم كما لو كنت شاعراً ضائعاً، لا محللاً نفسياً.
لاكان (بحدة):
والشعر أقرب للحقيقة من طبّك المختزِل. الشعر يكشف ما لا يستطيع خطابك العلمي المزيّف أن يقوله.
فرويد (ينهض واقفاً، بنبرة قاطعة):
لكن التاريخ لن يذكرك إلا تابعاً متمرداً. اسمي سيبقى حجر الأساس. أنت مجرد ظل يحاول أن يغطي الأصل.
لاكان (بهدوء قاتل):
الظل هو ما يمنح الضوء معناه. بدون ظلي، سيبدو نورك باهتاً، عارياً، متجمداً في زمنك.
فرويد (يخطو خطوة للأمام):
يا لاكان، لا تنسَ أنك تعيش من اسمي. بدون فرويد، لا وجود للاكان. لو لم أضع أنا حجر الأساس، لبقيتَ تتأرجح في الفلسفة مثل أي مفكر فرنسي ضائع.
لاكان (يرفع حاجبه متحدّياً):
ومن قال إن الابن لا يتجاوز الأب؟ أنت أيها الأب المؤسس كنت شجاعاً في اكتشاف اللاوعي، لكنك جبُنت عن مواجهة منطقه حتى النهاية. أنا الذي ذهبت أبعد: قلتُ إن اللاوعي ليس مجرد “مخزن” للرغبات، بل هو جهاز منظم بالدوال.
فرويد (ساخراً):
ها أنتَ تعود لكلماتك المفضلة: الدال، الآخر الكبير، البنية. كلمات جميلة تبهج الأكاديميين، لكنها لا تشفي مريضاً واحداً.
لاكان (بغضب مكبوت):
بل هي تشفيه من وهمك! المريض لا يحتاج أن يستمع إلى قصة “رغباته الطفولية” التي تحاول أنت أن تفرضها عليه. بل يحتاج أن يكتشف أنه محكوم بما يتكلم به، بما يتعثر فيه. أُعيد له مرآته المكسورة ليعرف نفسه.
فرويد (يضرب الأرض بعصاه):
المرآة؟! هذا هراء. أنت اخترعت عقدة جديدة كي تغطي عجزك. أما أنا فكنت أملك الشجاعة لأواجه الحقيقة: الإنسان محكوم بجنسه، بأوديب، بصراع الهو والأنا.
لاكان (بصوت حاد):
وأنت سجنت الإنسان في عقدتك الأوديبية! كأنك لا ترى أن “الأوديب” مجرد صياغة واحدة للقانون الرمزي. لستُ مضطراً لتقديس عقدتك كما يفعل تلاميذك.
فرويد (يتقدم أكثر، بنبرة تهديدية):
إذن اعترف: كل ما لديك مأخوذ مني. حتى حديثك عن اللغة مستعار من كلمتي “اللاوعي يشبه اللغة”. أنت مجرد صدى باهت.
لاكان (يصرخ لأول مرة):
بل أنا الصدى الذي حوّلك إلى لحن! أنت أردت السيطرة على اللاوعي، وأنا كشفت أنه لا يُسيطر عليه. أنت أردت إغلاق النص، وأنا فتحته.
فرويد (بغضب شديد):
أنت كالعاصفة، كثير الضجيج، قليل الثمر. أما أنا فزرعت حقلاً باقياً للأبد.
لاكان (بابتسامة متحدية):
الحقول تُحرث من جديد، يا فرويد. وأنت لا تطيق أن ترى أحداً يحرث حقلك.
—
ذروة المشهد:
الجمهور يعلو صخبه. بعض الطلاب يصفقون بقوة للاكان، وآخرون يهتفون باسم فرويد.
لكن فجأة، يقف فرويد شامخاً، يرفع عصاه قائلاً:
فرويد:
اسمعوا أيها الحاضرون! لاكان سيبقى في التاريخ كـ”شارح” معقّد، لكن التحليل النفسي سيظل يحمل اسمي أنا. أنا الأب، وأنا من أطلق الثورة. أما هو، فسيبقى الابن العاق، مهما حاول أن يبتلعني.
لاكان (بابتسامة مريرة، وعيناه تلمعان):
ربما… لكن تذكّر، يا فرويد: الأب يُقتل رمزياً لكي يعيش الابن. من دون موتك، لن يُولد علمي.
—
النهاية (مفتوحة/تصادمية):
يسود صمت ثقيل في القاعة، كأن الجميع أدرك أن المعركة الفكرية بين فرويد ولاكان ليست لها تسوية نهائية: الأب المؤسس يصرّ على سلطته، والابن المتمرّد يصرّ على قلب المائدة.
فرويد (بصوت جهوري، يضغط على الكلمات):
يا لاكان… لن أخفي الحقيقة: ما تفعله ليس إلا لعبة لغوية. أنت تُسكر الطلاب بمصطلحات غامضة، لكنك لا تُداوي أحداً. أما أنا، فقد جلست مع الهستيريين، مع العصابيين، وحررتهم من عُقدهم. هل أنقذتَ أنت مريضاً واحداً من جنونه؟
لاكان (يتنفس بسرعة، محاولاً الثبات):
أنا لا أقدّم مسكناً مؤقتاً مثل حبوبك الكلامية، بل أُجبر المريض أن يواجه جرحه الحقيقي: أنه محكوم دائماً بالآخر، بالنقص، بالرمز…
فرويد (مقاطعاً بعنف):
كفى! كل ما تقول ليس إلا غباراً فلسفياً. المريض يريد الحقيقة، لا متاهة رمزية. أنت تعطيه مرآة مكسورة، وأنا أعطيه المفتاح.
لاكان (بصوت مرتجف، لكنه يحاول التحدي):
لكن… اللاوعي ليس مفتاحاً يُفتح… إنه خطاب، إنه…
فرويد (يقترب منه، ينظر في عينيه بحدة):
بل هو جرح يُشفى حين يُكشَف. وأنا كشفتُه أولاً، وواجهتُه بجرأة. أما أنت، فمجرد تابعٍ يتمرد ليخفي عجزه.
لاكان (يصمت لحظة، يشيح بنظره إلى الأرض):
…
فرويد (ينتصر بنبرته):
انظروا إليه! هذا هو من ادّعى أنه أعاد للاوعي لغته! صمته الآن أبلغ من أي كلام. اللاوعي الذي يتبجح به لم يسعفه. حتى لغته خانته.
الجمهور (ينفجر بالتصفيق لفرويد):
فرويد! فرويد!
لاكان (بصوت خافت، كمن يبتلع مرارته):
ربما كنتَ الأب… وربما لا مفر من ظلّك…
فرويد (يرفع عصاه عالياً):
بل أنا النور، وأنت ظلّي. والظل لا يبتلع النور أبداً.
النهاية (بانتصار فرويد):
ينسحب لاكان بوجه شاحب وعينين دامعتين، فيما يقف فرويد شامخاً، والجمهور يحييه كأبٍ مؤسس لا يُهزم.
منقول