حكاية صورة
هو حكم قراقوش
وليد حسين عمر
يحكى أنه كان هناك أمير يدعى “قراقوش” إسمه يتردد على ألسنة المصريين منذ ما يقارب من ألف عام و هو إسم يطلق كنايةً عن الظلم فى التاريخ العربى وقد نسبت هذه العبارة إلى الأمير بهاء الدين قراقوش، وقليل من المؤرخين الذين إهتموا برفع الظلم عن هذا الرجل ، والذى يعد أحد كبار المهندسين والبنائين فى تاريخ الإسلام، والغريب أن كل ما تردد من تراث مغلوط و سمعة سيئة نعتت قراقوش بالظلم والإستبداد سببها كتاب وضعه أحد الموتورين من منافسى قراقوش و خصومه الحاقدين في عصره و هو ابن مماتى، الذي كتب عنه كتاب: (الفاشوش في معرفة أخبار قراقوش)، و قد ملأه بالإدعاءات الظالمة التي نسبها إلى الأمير قراقوش، وقد وصفه بالغفلة و الحماقة و البطش والإستبداد والتى سرعان ما إنتشرت على ألسنة العامة داخل و خارج مصر .
وُلد قراقوش بآسيا الصغرى، وهو رومى النسب، خدم أسد الدين شيركوه القائد العسكرى فى جيش عماد الدين آل زنكى ، ثم فى جيش نور الدين محمود . و قد دخل قراقوش مصر فى جيش أسد الدين شيركوه وإبن أخيه صلاح الدين الأيوبى، فى تلك الفترة التى شهدت إنهيار الدولة الفاطمية وبداية قيام الدولة الأيوبية. و قراقوش هو (بهاء الدين بن عبد الله الأسدى) ، وسمى بالأسدى نسبة إلى أسد الدين شيركوه قائده، ومعنى (قراقوش) بالتركية النسر الأسود، وكان قراقوش ضلعًا في مثلث ارتكزت عليه الدولة الأيوبية في مصر، الضلع الأول هو الفقيه عيسى المهكارى، والضلع الثانى هو القاضى الفاضل، والضلع الثالث هو القائد العسكرى قراقوش .
و بينما كانت الدولة الفاطمية ذات صبغة مدنية، وإهتمت بإنشاء الدواوين المتعدِّدة، فإن الدولة الأيوبية كانت ذات صبغة عسكرية ، و ذلك لظروف مواجهتها لخطر الغزو الأوربى متمثلاً في جيوش الفرنجة ، لذا إهتمَّ صلاح الدين الأيوبى بالتجهيزات العسكرية من مدِّ الجسور، وبناء القلاع الحربية والحصون، وإنشاء الأسوار ، وهى مجالات كان لقراقوش باع طويل فيها ، و عندما مات الخليفة الفاطمى العاضد كان صلاح الدين قد إنتهى من قطع إسمه من الخطبة، وذكر اسم الخليفة العباسى بدلاً منه، وتولى صلاح الدين يوسف الأيوبى الحكم رسميًّا، وقد حوى القصر الفاطمى كنوزًا هائلة، خشى صلاح الدين عليها من النهب ، فإختار صلاح الدين، قراقوش متوليًا على القصر للحفاظ على خزائنه.
و قد تألق نجم قراقوش في ظلِّ قيادة صلاح الدين الأيوبى التاريخية و كان له دورا هاما فى تلك الحقبة الزمنية من التاريخ ، و كان لقراقوش أعمال عسكرية هامة يمكن تقسيمها إلى ثلاث نواح رئيسية :
١- إقامة قلعة الجبل ( قلعة صلاح الدين الايوبى) فوق المقطم، التى ظلَّت مقرًّا للحكم فى القاهرة حتى عهد محمد على باشا إلى أن إستبدل بها الخديو إسماعيل مقرًّا آخر للحكم. كما أتبعها ببناء قلعة المقسى، وهى برج كبير بناه قراقوش على النيل، وبنى بالقرب منه أبراجًا أخرى ، على طراز الأبراج الفرنجية لا الفاطمية ، التي وجدها أقوى و أكثر تقدُّمًا.
٢- سور القاهرة: بعد الإنتهاء من بناء القلعتين، قام قراقوش ببناء سور كبير يحيط بالجيزة ناحية الصحراء الغربية من أحجار الأهرامات، ثم بني سورًا يحيط بالقاهرة، وبناه من حجارة الأهرامات الصغيرة والمقطم، وحفر فيه بئرًا وضم مسجدًا . وهذا السور هو السور الثالث الذي أحاط بالقاهرة بعد سور جوهر الصقلي مؤسس القاهرة، وسور بدر الدين الجمالي الأمير الفاطمى، وكان السوران من اللَّبِن وليس من الحجارة .
٣- سور عكا: عندما إستردَّ صلاح الدين عكا بعد بيت المقدس من أيدي الفرنجة، وتهدَّم سور المدينة من الحصار، ترك لقراقوش مهمة إعادة بناء السور المتهدم، ومضى ليحرِّر الحصون الأخرى من الفرنجة، وعكف قراقوش على عمله بجد وشغف و بعزيمة، وهو يدرك أهمية هذا العمل في تحرير الأرض العربية من أيدى المغتصبين، ولكن الفرنجة فى محاولة يائسة، قرروا لمَّ شتاتهم في المنطقة والقيام بعملية إلتفاف حول قوات المسلمين، وحاصروا عكا حتى يشتتوا تركيز صلاح الدين، وإستمر الحصار عامين، وقراقوش يقود المقاومة والصمود داخل المدينة المحاصرة، حتى غلبهم الجوع والوباء وإمدادات الفرنجة التى أتت من البحر، لتقع عكا في أيديهم، ويقع من فيها أسرى و قتلى وجرحى، و أُسِرَ قراقوش نفسه حتى أُفرج عنه فى الصلح عام ١١٩٢م.
بعد وفاة صلاح الدين، عمل قراقوش في خدمة العزيز ، وقد أحبط مؤامرة العادل لخلع العزيز بالله بالإتفاق مع قائد أكبر قوات العزيز، وهو حسام الدين أبو الهيجاء السمين زعيم الأسدية الذي انسحب بقواته من الشام وكشف ظهر العزيز بالله، ولكن قراقوش أحبط محاولة الانقلاب على العزيز بالقاهرة .
وبعد وفاة العزيز تولَّى المنصور وسنه تسع سنوات، فأصبح قراقوش وصيًّا على العرش، وعندما إنقسم الصالحية والأسدية، واستعانوا بالملك الأفضل عم المنصور، تنازل قراقوش له عن الوصاية ، ولكن مؤامرات العادل إستمرت، وظلت أطماعه فى الشام صوب عرش القاهرة ، وعزم على الإغارة على القاهرة، فلما تبين الأفضل أطماع عمه العادل، جمع قواده وعرض عليهم الأمر، فقال له الأمير بهاء الدين قراقوش في تصميم : “لا تخف يا مولاى، فنحن جندك و جند أبيك من قبلك، مرنى أحفظ لك قلعة الجبل، ثم مرنى أحفر لك ما بقى من سور البلد، ثم مرنى أتعمق الحفر، حتى أصل إلى الصخر، وأن أجعل التراب على حافة الحفر، فيبدو كأنه حائط آخر، ودعنى أفعل ذلك فيما بين البحر وقلعة المقسى، وبذلك لا يبقى لمصر طريق إلا من بابها الذي يصعب أن يفتحه العدو”. ولكن العادل إستولى على مصر، وفر الأفضل من وجهه إلى الشام، وخلع العادل المنصور ونصب نفسه واليًا، وخطب له.
وتوارى قراقوش في الظل حتى وافته المنية عام ١٢٠٠م بعد حياة حافلة بالعطاء والإخلاص .. والآن و بعد ان عرفنا تاريخ قراقوش الذي ظلمه البعض ، بإدعاءات كاذبة فلا نملك إلا أن نقول رحم الله الأمير بهاء الدين قراقوش .
حفظ الله مصر وشعبها وجعلها كما تستحق أمة عظمى بين الأمم