غيابُ الروح في عصر الخوارزميات: التفكك الأسري وأثره على سلوك الأبناء
بقلم: د. محمد أحمد عبد الحميد
في الوقت الذي يتسابق فيه العالم نحو آفاق مذهلة من الذكاء الاصطناعي والترابط الرقمي، نجد فجوة عميقة بدأت تتسع داخل “الخلية الأولى” للمجتمع؛ الأسرة. لم يعد التفكك الأسري في عصرنا الحالي مقتصرًا على الانفصال الجسدي أو الطلاق الشرعي فحسب، بل برز نوع جديد من “الطلاق العاطفي” تحت سقف واحد، حيث باتت الشاشات جدرانًا عازلة تفصل بين الآباء والأبناء.
أولًا: مفهوم التفكك الأسري في العصر الرقمي
التفكك الأسري هو اختلال الوظائف الأساسية للأسرة، وفقدان الروابط العاطفية والتربوية التي تربط أفرادها. في عصر الذكاء الاصطناعي، تحول هذا التفكك من “صراع معلن” إلى “عزلة صامتة”؛ حيث يهرب كل فرد من واقع الأسرة المضطرب إلى واقع افتراضي مصمم بدقة عبر خوارزميات تلبي رغباته الشخصية، مما يزيد من حدة الاغتراب الأسري.
ثانياً: أثر التفكك على سلوك الأبناء
عندما تنهار المظلة الأسرية، يصبح الأبناء “أيتامًا اجتماعيين” رغم وجود الوالدين. وتتجلى آثار ذلك في سلوكياتهم على النحو التالي:
* اللجوء للبديل الرقمي كـ “مربٍّ” بديل:
في غياب التوجيه الأسري، يصبح الذكاء الاصطناعي وتطبيقات التواصل الاجتماعي هي المصدر الأساسي لاستقاء القيم والمعلومات. وهنا تكمن الخطورة؛ فالخوارزميات لا تملك منظومة أخلاقية، بل تهدف للبقاء على اتصال دائم، مما قد يعرض الطفل لمحتوى لا يناسب سنه أو قيم مجتمعه.
* الاضطرابات النفسية والسلوكية:
يؤدي غياب الاستقرار إلى ظهور مشكلات مثل العدوانية، أو الانطواء الشديد، وتدني الثقة بالنفس. هؤلاء الأبناء هم الأكثر عرضة لـ “إدمان الإنترنت” بحثًا عن قبول اجتماعي مفقود داخل المنزل، مما قد يوقعهم في فخ الاضطرابات السلوكية الرقمية.
* تآكل المهارات الاجتماعية:
الابن الذي ينشأ في أسرة مفككة يفتقر لنموذج الحوار والحل السلمي للنزاعات. وبدلاً من تعلم التعاطف البشري، يتعود على التفاعل الجاف مع الأجهزة، مما يضعف قدرته على بناء علاقات إنسانية سوية في المستقبل.
ثالثاً: التحديات التي فرضها الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين؛ فبينما يوفر أدوات تعليمية هائلة، فإنه في حالات التفكك الأسري يتحول إلى “مخدر رقمي”. تقنيات مثل “التزييف العميق” (Deepfake) وغرف الدردشة الآلية التي تعتمد على نماذج اللغة الكبيرة قد تجذب الأبناء الفارين من جحيم الخلافات الأسرية، مما يجعلهم لقمة سائغة للتنمر الإلكتروني أو الاستقطاب الفكري من جهات مجهولة.
رابعاً: سبل المواجهة والاستعادة
إن مواجهة أثر التفكك الأسري في هذا العصر تتطلب حلولاً غير تقليدية تدمج بين الأصالة التربوية ومعطيات التكنولوجيا:
* أنسنة التكنولوجيا: تخصيص أوقات “خالية من الشاشات” لإعادة إحياء الحوار الأسري الدافئ.
* الوعي التربوي الرقمي: يجب على الوالدين فهم الأدوات التي يستخدمها أبناؤهم لتقليل الفجوة المعرفية وحمايتهم من المخاطر السيبرانية.
* الذكاء العاطفي مقابل الاصطناعي: تعزيز مهارات التعاطف والاحتواء التي لا يمكن لأي خوارزمية ذكية، مهما بلغت دقتها، أن تعوضها.
خاتمة
إن الذكاء الاصطناعي، برغم عظمته، لن يتمكن أبدًا من لمس رأس طفل حزين أو توجيه شاب تائه كما تفعل الأسرة المتماسكة. إن حماية الأبناء من الانحراف السلوكي تبدأ من استعادة “دفء البيت”؛ فالتكنولوجيا يجب أن تكون خادمة للأسرة، لا هادمة لأركانها.
غيابُ الروح في عصر الخوارزميات: التفكك الأسري وأثره على سلوك الأبناء

