أسرار العبور الخفية.. مدرسة التخطيط في عمق الرمال
بقلم: محمد عابدين الرعمي
ما يغيب عن الأذهان في سرد أكتوبر هو التحول الجذري في عقيدة التدريب بعد النكسة، إذ لم يكن التحدي بناء الجيش، بل بناء القائد الميداني المستقل. اعتمدت القيادة العليا على تفويض صلاحيات اتخاذ القرار في أقصى نقطة قتالية، ما أدى لظهور مئات القادة الذين تصرفوا بمرونة تامة وذكاء في مواجهة المواقف غير المتوقعة، وهو سر استراتيجي لم يدركه العدو ولم يتوقعه على الإطلاق.
كما تُعدّ عملية التمويه المدني الاستراتيجي واحدة من أعمق أسرار الحرب التي لم تُنشر بعد، حيث تم تحويل مدن بأكملها في الدلتا والمدن المحيطة إلى قواعد لوجستية وإدارية خلفية لدعم الجبهة. هذا الاستغلال الكثيف للبنية التحتية المدنية دون لفت انتباه الرصد الاستخباراتي لم يجعل القاهرة هدفاً، بل جعلها شريكاً صامتاً وفعالاً في الإعداد والتخطيط على مستوى الدولة الشاملة.
البعد المالي والتمويلي للهجوم ظل أيضاً سراً بالغ التعقيد والتنظيم. لم تقتصر الاستعدادات على الموازنات العسكرية المعلنة، بل تضمنت صندوقاً سرياً لـ تمويل الطوارئ الفورية تحت إشراف مباشر للقيادة السياسية والعسكرية. هذا الترتيب أتاح للقيادات الميدانية التعامل السريع والفوري مع أي أعطال أو احتياجات غير متوقعة في سلاسل الإمداد، مما سرّع وتيرة العمليات وضمن عدم توقف الزخم الهجومي.
هنا يكمن السر الأعظم: التفوق اللوجستي
المضاد عبر الصحراء.
كان العدو يعتمد على سرعة المناورة والدعم الجوي السريع، بينما ركزت مصر على بناء شبكة إمداد لا تُقهر في عمق الصحراء المفتوحة. تم إنشاء مخازن خفية وممرات إمداد متعددة ومؤمنة، تضمن وصول الذخيرة والغذاء والوقود دون انقطاع، ما أبقى الهجوم مستمراً بكفاءة عالية حتى تحت أقصى كثافة نيرانية.
كذلك، لعبت خرائط السلوك الإنساني، دوراً بالغ الأهمية في إدارة القوات القتالية. استعان التخطيط الحربي بفرق تحليل اجتماعي ونفسي لدراسة سلوكيات الجنود في ظل الإجهاد القتالي والنفسي داخل الخنادق الأمامية. هذا التحليل ساعد في بناء برامج دعم معنوي وتوزيع القوات، بما يضمن أقصى درجات الاستقرار النفسي والملاءمة للمهام، وهو تفوق غير تقليدي على الجانب المعنوي والذهني للقتال.
في النهاية، يُمكن القول إن نصر أكتوبر هو نتاج ثقافة إدارة المعرفة الاستخباراتية والتخطيط المتعدد الأبعاد، وليس قوة النيران فحسب. لقد أثبتت التجربة المصرية أن التفوق يتحقق عندما يتم توظيف كل أجهزة الدولة، المدنية والمالية والعسكرية، في تخطيط مركزي متكامل يهدف إلى هزيمة الخصم على جميع المستويات، الفكرية والميدانية والاجتماعية، ليكون نصراً شاملاً.
أسرار العبور الخفية.. مدرسة التخطيط في عمق الرمال