مقالات دينية

أنا

جريدة موطني

” أنا.

بقلم الأديب المصرى
د. طارق رضوان جمعة

ما من يوم إلا تناجى أعضاء الجسم اللسان فتقول له اتق الله فينا، فهو من يًظهر ما بالنفس وما بالقلب من خير او شر، ولا يكب الناس على وجوههم إلا حصاد ألسنتهم ، لذلك قالوا لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك. يقول المتنبى :
ملأى السنابل تنحنى بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ

“أنا”… لا بأس من قول ” أنا” إلا إذا كانت تنم عن كبر وغرور. فبين الثقة والغرور خيط رفيع.
وما أنا إلا عبد لله فقير… فأنا من أصد الرياح العاصفات بعمق ذاتى. وانا من يرنو إلى سحر الجمال واجوب أروقة الخيال فى عيون الحالمات. أنا ساكناَ، متحصناَ فإن لى وإن بى للجمال محبة، أقوى وأعظم بل أشد وأمتنا من ان يبيت بداخلى ظن بسؤ مبهماَ أو معلناَ فأصده وأحده بالحب ، بالايمان، بالروح التى لا تعرف الإرهاق والإزهاق بل تصل البعيد الأبعدا ، تصل المدى كى تهزم العتم البغيض الاسودا.
يا ابن ادم على ماذا التكبر والغرور وحولك أرض تملأها القبور ؟! ما انت ببحر وما انت صخور. أنسيت ان الأرض يملكها رب غفور؟! كم فقدنا من أناس لهم نخل واسوار ودور! كم فارقنا من اهل وخل اتاهم بغتة قدر يدور ، فدع التكبر والتجبر، إن التكبر للبعيد وبيل. اجعل فؤادك للتواضع منزلاَ ، إن التواضع للشريف جميل. لأمر ما قد خلقنا الله فلما الغرور؟ لعمرك… لا ينال الفضل إلا تقى القلب محتسب صبور. أما ترى دنياك داراَ تموج بأهلها كأنها بحور ؟! فلا تنسى الوقار فإن اخرتك فتور. هذه الدنيا لنا معبرُ والخير معروف والشر منكرُ. لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشرُ. ما أحقر الإنسان فى فخره وهو غداً فى حفرة يقبرُ.
فكلما صغر العقل زاد الغرور… تلك الغرور رمال متحركة يغرق فيها المنطق. الغرور هو من يُظهر للناس نقائصك كلها ولا بخفيها إلا عليك.
يا أبن ادم ما حاجتك إلى غرور هو مخدر يسكن الم الغباء؟! إن الغرور زهور لكنه لا يثمر بل ينقص السرور ، فالغرور مركب السفهاء فى حياة من تراب وعلى تراب وإلى تراب. أتريد أن تكون مغروراً؟ المغرور هو ديك يعتقد أن الشمس تشرق كل صباح لكى تستمتع بمهارته فى الصباح.

” أنا” كلمة تُقال غالبًا في سياق الكِبْرِ، والتعالي، وتضخيم الذات، والإعجاب بالنفس،، وهذه كلها صفات قبيحة، ويكفي في ذم “الأنا” كونها شعار الطغاة والمتكبرين، وبسببها باؤوا بسوء العاقبة: فقد قالها إبليس: وذلك لما عصى أمر ربه بالسجود لآدم عليه السلام استكبارًا؛ فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وقالها النمروذ: وقد كان ملكًا لبابل وكان متجبرًا طاغية يدَّعي الربوبية؛ فهذا الطاغية المتجبر لما دعاه إبراهيم عليه السلام إلى توحيد الله، مبيِّنًا له أنه هو وحده الأحق بالعبادة؛ لأنه هو الذي يحيي ويميت، قال النمروذ، وقد تملَّكه الكبر والغرور: أنا أحيي وأميت؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
وقالها فرعون: لما دعاه نبي الله موسى عليه السلام إلى الإسلام، فتكبَّر وتعظَّم في نفسه، معلنًا أنه خيرٌ منه؛ لأنه يملك جنات وأنهارًا ومُلكًا واسعًا، وأما موسى وأتباعه فقوم فقراءُ ضعفاء لا يملكون شيئًا؛ قال الله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51، 52]. وأعظم من ذلك ادعاؤه الربوبية والألوهية؛ قال الله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 23، 24]، وتطاوَلَ على الذات الإلهية العَلِيَّة؛ فقال كما حكى عنه القرآن: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38].

وقالها صاحب الجنتين: وهو يحاور صاحبه مفتخرًا متكبرًا مغرورًا؛ قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 34 – 36].

إن عاقبة أصحاب “الأنا” هي الصَّغار والهلاك،. فأما إبليس: فقد باء بلعنة الله والرجم والطرد، وصار من الصاغرين، بعد أن كان صاحب منزلة سامية؛ قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]، قال كثير من المفسرين: “الضمير عائد إلى الجنة، ويُحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى، {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}: أي الذليلين الحقيرين؛ معاملة له بنقيض قصده، ومكافأة لمراده بضده”. وقال تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18]؛ عن ابن عباس: أي: مقيتًا، وعنه أيضًا: صغيرًا مقيتًا، وقال السدي: مقيتًا مطرودًا، وقال قتادة: لَعِينًا مقيتًا، وقال مجاهد: منفيًّا مطرودًا، وقال الربيع بن أنس: مذؤومًا: منفيًّا، والمدحور: المصغَّر. وقال جل وعلا: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77، 78]، وقال: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34، 35]، ومعنى (رجيم) أي: مرجوم، وأنه قد أتْبَعَه لعنة لا تزال متصلة به، لاحقة له، متواترة عليه إلى يوم القيامة؛ وعن سعيد بن جبير أنه قال: “لما لعن الله إبليس تغيَّرت صورته عن صورة الملائكة.

وأما النمروذ: فقد أهلكه الله بأضْأَلِ مخلوقاته؛ إذ أرسل عليه وعلى جنوده بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بادية.

وأما فرعون: فقد أخرجه الله هو وجنوده من جناتهم وقصورهم وأموالهم، وأغرقهم في اليمِّ ليكونوا عِبرة لكل ظالم؛ قال الملك سبحانه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 39، 40].

وأما صاحب الجنتين: فأرسل الله على جنتيه مطرًا عظيمًا مزعجًا، أقلع زرعها وشجرها، وصارت صعيدًا زَلَقًا؛ أي: ترابًا أملس لا يثبت فيه قدم، وذهب ماؤها غائرًا في أعماق الأرض، فأصبح يقلب كفَّيه حزنًا وأسفًا على أمواله الكثيرة التي أنفقها على جنَّتيه؛ حيث اضمحلَّت وتلاشت وتَلِفَتْ، ولم ينفعه حينئذٍ ما كان يفتخر به من ولد وعشيرة وأتباع، في دفع ما نزل به؛ قال الملك الجبار جل وعلا: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (الكهف).

نبينا عليه الصلاة والسلام يعلِّمنا التواضعَ والأدبَ: فإنه صلى الله عليه وسلم لما استعمل كلمة “أنا” مخبرًا عن شيء من خصائصه وكراماته التي أكرمه بها الله تعالى، فإنه قالها بأدب جمٍّ، وبتواضع، وامتنان، وشكر لربه الكريم، وأعلن أنه لا يريد بها فخرًا؛ ففي الحديث الذي رواه الترمذي، وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سيدُ ولدِ آدم يوم القيامة ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمُ فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أولُ شافع وأول مُشفَّعٍ ولا فخر». فذِكرُ خصائصِ ومناقبِ النفس إنما يكون غالبًا في سياق الافتخار؛ لذلك فإن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: «ولا فخر»؛ ليقطع ويدفع وهْمَ مَن يتوهم أنه يذكر ذلك افتخارًا، والسعيد من تأدَّب بأدب نبينا الكريم محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
َ الأنا شعار المتكبرين والمغرورين، وقد مضت سُنَّة الله تعالى بدَحْرِهم وإهلاكهم؛ لأنه جل وعلا لا يحب كل مختال فخور.

وختاماً تذكر ان الله خلق اللسان خلف أسنان وشفتين ليكونوا للانسان حاجزاً منيعاً لمينحوك فرصة التفكر والتدبر قبل أن تتفوه بما يحملك الذنوب والعيوب. تذكر ان الله خلق لنا اذنين لنسمع أكثر مما ننطق. رب أغفر لى ما كان منى ولم الق له بالاً، فإنى فقير بلا رحمتك. رب جازنى بالإحسان إحساناً وبالعصيان غفراناً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى