
أوروبا في قبضة الخوف: كيف يهدم«اليمين المتطرف» هوية القارة العجوز؟
بقلم : نبيل أبوالياسين
•رقصة الظلال على جسد أوروبا
في شوارع باريس وبرلين وروما، تتهامس الجدران بأسئلةٍ مُقلِقة: هل تُصبح أوروبا — مهد التنوير وحصن التعددية — ساحةً لمعركة وجودية بين ماضٍ يصرخ ومستقبل يترنح؟، أحزاب اليمين ترفع شعارات “الدفاع عن الهوية” كسيفٍ ذي حدين: أحدها يقطع أوصال التنوع، والآخر ينزف قِيَم التسامح التي عانت القارة قرونًا لبنائها، بينما تُغلق الحدود وتُحرَق مراكب اللجوء، تطفو على السطح إجابةٌ واحدة: أوروبا لم تعد كما كانت، فهل ستصير نسخةً مشوَّهةً من ذاتها؟.
أوروبا في قبضة الخوف: كيف يهدم«اليمين المتطرف» هوية القارة العجوز؟
•جذور الأزمة: من “التعددية المثالية” إلى الخوف المُعلَّب
لم تكن الهجرة وحدها الشرارة التي أشعلت غضب اليمين، بل فشل النخب في دمج الوافدين ضمن نسيج مجتمعاتٍ باتت تشعر بالغربة حتى عن نفسها، وسياسات الانفتاح العشوائي في تسعينيات القرن الماضي، مع صعود العولمة، حوَّلت المدن الأوروبية إلى فسيفساء ثقافية هشة، حيث تعايشت الأديان والأعراق دون أن تذوب في بوتقةٍ مشتركة، واليوم، يبيع اليمين حلًّا سحريًّا: استعادة الهوية عبر استبعاد “الآخر”، وكأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه بصيغةٍ أكثر قسوة.
•سلاح الخوف: كيف تُحوِّل أحزاب اليمين الهجرة إلى عدوٍّ وهمي؟
الخطاب السياسي لليمين لم يعد يكتفي برفض الهجرة، بل يحوِّلها إلى تهديد وجودي، في إيطاليا، تصف جورجيا ميلوني المهاجرين بـ”غزاة الحضارة”، بينما يروِّج مارين لوبان في فرنسا لـ”استبدال عرقي” مزعوم، وهذه السردية لا تعتمد على إحصائيات دقيقة — فالمهاجرون يشكلون أقل من 10% من سكان الاتحاد الأوروبي — بل على استغلال غريزة البقاء، والخوف من فقدان الهوية يصبح وقودًا لشيطنة المختلف، وتحويله إلى كبش فداء لأزمات الاقتصاد والبطالة.
•انقلاب القِيَم: من المساواة إلى التطهير الثقافي
أكثر ما يُقلق في صعود اليمين ليس كراهية المهاجرين فحسب، بل اختراقه لمبادئ كانت أوروبا تفخر بها: والعلمانية: أحزاب مثل “البديل لألمانيا” تدعو إلى تفضيل المسيحية كـ”دين أوروبي أصيل،
و”حقوق المرأة” تُستخدم خطابات مناهضة الإسلام لتمرير قوانين عنصرية، مثل حظر الحجاب تحت شعار “تحرير المرأة” والديمقراطية: تقويض استقلالية القضاء والإعلام باسم “حماية الشعب من النخبة الفاسدة”، هنا، يصبح “الدفاع عن القِيَم” ذريعةً لهدمها!.
•التأثير الدومينو: كيف تُعيد أحزاب اليمين رسم خريطة أوروبا؟
النجاحات الانتخابية لليمين من السويد إلى إسبانيا تُنتج واقعًا جيوسياسيًّا جديدًا، وسياسات متطرفة: إيطاليا تتعاقد مع ليبيا لاحتجاز المهاجرين في معسكرات أشبه بمعتقلات، “تحالفات خطيرة”: التقارب بين اليمين الأوروبي وأنظمة شمولية مثل أوربان،
“تفكيك الاتحاد الأوروبي”: المطالبات باستعادة السيادة الوطنية تهدد تماسك الكتلة التي أنهكتها أزمات البريكست والطاقة،
والنتيجة: قارةٌ تتشرنق حول هويات ضيقة، بدلًا من أن تتكتل ضد تحديات القرن الحادي والعشرين.
•الهوية على المحك: بين تداعيات اليوم وبوادر الأمل
لا يقتصر تأثير صعود اليمين على الخطاب السياسي فحسب، بل يخترق تفاصيل الحياة اليومية ويُهدد البُنى الاجتماعية: في إيطاليا، أدى تشديد قوانين الهجرة إلى نقصٍ حادٍّ في العمالة الزراعية، فارتفعت أسعار الخضروات بنسبة 30%، بينما تُواجه مدارس ألمانية تدرِّس الثقافة الإسلامية تهديدات بالإغلاق تحت ذريعة “حماية الهوية”. لكن في المقابل، تبرز مبادراتٌ مجتمعية كـ”أجوبة حية” على هذا التحدي: في السويد، تتعاون منظمات حقوقية مع المدارس لتعليم الأطفال ثقافة التعايش عبر مسرحيات تفاعلية، بينما أطلقت فرنسا برامجَ لدمج المهاجرين في قطاعاتٍ تشهد ندرةً كالصحة والطاقة المتجددة، هذه النماذج رغم صغرها تُثبت أن الهوية الأوروبية قادرةٌ على النهوض من رماد الخوف… إذا اجتمعت إرادة السياسة مع إصرار المواطن!.
•المُفارقة القاتلة: هل تُنتج أحزاب اليمين هويةً أوروبيةً أم تقتلها؟
يدَّعي اليمين أن سعيه هو “حماية الهوية الأوروبية”، لكنه في الواقع يصنع هويةً هجينةً: – “هوية مُزيَّفة”: تُختَزَل أوروبا بتنوعها الفكري والفني إلى حدودٍ جغرافية ودينٍ واحد، “هوية عدائية”: تُبنى على رفض الآخر بدلًا من احتضان الذات، “هوية قصيرة النظر”: تهمل التحديات الحقيقية كالتغير المناخي والشيخوخة السكانية، لصالح معارك وهمية،
وبهذا، تُصبح أحزاب اليمين ليست حاميةً للهوية، بل قاتلةً لها!.
ختاماً:
•أوروبا.. هل تختار المصير أم المصير يختارها؟
على حافة الهاوية، تواجه أوروبا سؤالًا وجوديًّا: هل ستسمح للخوف أن يُحوِّلها إلى متحفٍ لذكريات مجيدة، أم ستعيد اكتشاف هويتها كفكرة قائمة على التعددية لا التطهير؟، والتاريخ لا يرحم: الحضارات التي بنت أسوارًا عالية حولها انتهت إلى أنقاض، واليوم، ليست الهجرة هي التهديد الحقيقي، بل الاستسلام لخطابٍ يبيع الوهم بدلًا من الحلول، أوروبا التي أنجبت فولتير وكانط يجب ألا تموت على يد من يدَّعون حمايتها، الساعة تدق… فبأي صوتٍ ستُجيب؟.