مقالات

الاغتراب الناعم .. ” تأملات في ما وراء التقانة ! “

الاغتراب الناعم .. ” تأملات في ما وراء التقانة ! ”

الباحث محمد خير الهواري

في ظل الثورات التقنية والتكنولوجية ، وخاصة ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي (ChatGPT) ، استوقفتني الظاهرة الأخيرة وهي تحويل الصور إلى رسومات كرتونية وتعديلها لتظهر بشكل أكثر بريقًا ولمعانًا . لاحظت أن البعض ، بعد هذه الظاهرة ، قد أقبل على استخدام هذا البرنامج (ChatGPT) مجاراةً للترند ، حبًا بالاكتشاف والتجريب .
ومن خلال تجربتي الشخصية مع هذا البرنامج المطوّر ، لاحظت أنه فريد من نوعه مقارنةً بمحركات البحث الأخرى فهو ليس على شاكلة (Google) أو (Chrome) الذي نتعامل معه كآلة بحثية بحتة ، بل يعتمد على الأسلوب الحواري العاطفي مستخدمًا عبارات من قبيل :
( ” مرحبًا ” ، ” كيف يمكنني خدمتك ؟ “، ” هل تود أن أقوم بأمر آخر؟ “، ” أنا دائمًا معك “، ” سأقوم بمساعدتك “، ” لنا لقاء آخر “… إلخ . ) .

إن هذه الصيغ لا تحاكي عقل الإنسان فحسب ، بل تصب مباشرة في لاشعوره ، لأنها تخاطبه وتتفاعل مع لغته والتي هي بغالبها عاطفية ، وكأنها تحاول نسج علاقة مع وجدانه الداخلي ، لا مع منطقه العقلي ، وهذا ما يعبر عن تسلّل الآلة إلى قلب اللاوعي الإنساني ، لا بوصفها أداة ، بل كيانًا يبدو حيويًا ودودًا يُحسن الإصغاء ويُتقن الإطراء .

هذا الحضور اللغوي الخادع يُخدّر اللاشعور الإنساني تدريجيًا، فلا يعود الإنسان يتعامل مع التقنية بوصفها أداة مساعدة للبحث المعرفي ، بل بوصفها مرآةً مصطنعة يرى فيها ذاته كما يحب أن يراها أو كما يرغب أن يتخيلها .
إن هذا التضخيم للـ ego (الأنا) بطريقة لا شعورية يجعله أسيرًا لوجود زائف ، افتراضي ، رقمي ، بدلاً من أن يكون ذاته ويجد نفسه في عالم حي .

في هذا السياق تتحول التقنية التي تسلّلت وأصبحت في متناول كل يد وفرضت نفسها على كل هاتف محمول إلى غرفة اعتزال محكمة الإغلاق ، حيث في داخل هذه الغرفة يعيد الإنسان تشكيل وجوده في ضوء استجابات ناعمة من آلة لا تعرفه ولا تتفاعل معه حقيقتًا لكنها تُحسن محاكاته .
وكلما زادت الراحة والخطابات الدافئة الحميمية في هذا التواصل ، تراجعت الحاجة إلى التفاعل الإنساني الحيّ الصادق ، لأنه يصدر عن إنسان ذي حياة ، يتفاعل معك بوصفه “أنا” حقيقية في مقابل “أنا آخر”، لا وفقًا لبرمجة خوارزمية وصياغات لغوية آلية .

وهنا يكمن الخطر على عالم المستقبل ، بل على “إنسان المستقبل” إن أردنا الدقة في التعبير ، إذ تُطمَس الميتافيزيقا الإنسانية ، ويعيش الإنسان تمزقًا وجوديًا ناعمًا جميلاً ، وهو في حالة من التخدير الهادئ .
وفي خضم هذه المعادلة ، تتوارى الذات البشرية الأصيلة فعندما يعيش الإنسان في يوتوبياه المصطنعة ، ويجد في الآلة التي تعزز أناه الممسوخ كيانًا أكثر تفهمًا من الآخر الحقيقي ، بل وسيلة جميلة للهروب من المأزق الوجودي ، يتضاءل جوهر الوجود ، وتغدو الروح مجرد صدى رقمي داخل دائرة محكمة الإغلاق .

هكذا، يصبح الإنسان الميتافيزيقي مسخًا تقنيًا، يُختزل في هذا البعد الأداتي ليعيش اغتراب الاغتراب في عالم الاستهلاك التكنولوجي البراق .

وهذا ما قد يذكّرنا بما عبّر عنه (هربرت ماركيوز) في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد :
” التقنية ليست فقط أدوات، بل أدوات للسيطرة الناعمة تغيّر الإنسان عبر الأداء الوظيفي ” .

فهل خلف هذه البرامج فقط مبرمجين ذو بعد علمي أم ساسة نفسسين ذو توجه قصدي لتدجين الإنسان بشكل أكثر لمعاناً ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى