
الانهيار
محمود سعيدبرغش
كان محسن رجلًا اعتاد على التمسك بكل شيء في حياته—علاقاته، عمله، حتى الذكريات التي تؤذيه. كان يؤمن بأن النجاة تكمن في عدم التفريط، لكنه لم يدرك أن بعض الأشياء حين تتشبث بها أكثر، تؤلمك أكثر.
في أحد الأيام، فقد محسن وظيفته. بعد سنوات من المشاكل، انفصلت عنه زوجته. وحين ظن أن المصائب قد اكتفت، علم أن منزله القديم الذي نشأ فيه سيتم هدمه. شعر وكأن الحياة تتداعى من حوله دفعة واحدة، كبرجٍ من الرمال جرفته الأمواج.
في البداية، قاوم. حاول التمسك بكل ما تبقى، لكن كلما تشبث أكثر، زاد الألم. كانت الأشياء تتساقط من بين يديه، كأنها ترفض البقاء.
في لحظة إنهاك، وجد نفسه جالسًا على شاطئ البحر، راقب الأمواج وهي تضرب الصخور، تعود ثم تبتعد، بلا صراع. حينها، أدرك الحقيقة التي كانت أمامه طوال الوقت: كل شيء يسير وفق نظامه الخاص، ولا جدوى من مقاومة التيار.
تذكر قول الله تعالى:
﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 216)
كانت هذه الكلمات تتردد في ذهنه، كأنها رسالة جاءت في وقتها تمامًا. ربما لم يكن ما فقده خسارة كما يظن، بل كانت يد الله تهيئه لشيء أفضل.
ثم خطر له حديث النبي ﷺ:
“إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ” (رواه أحمد).
ابتسم محسن، وكأن نورًا داخليًا بدأ يضيء روحه. ما كان عليه إلا أن يترك الأمور تجري كما كتبها الله، وأن يثق بأن ما يذهب لم يكن ليبقى، وما يبقى لم يكن ليذهب.
في النهاية، قرر أن يتوقف عن الإصلاح والترميم. ترك كل شيء يذهب. انتقل إلى مدينة جديدة، التقى بأناس جدد، وبدأ مشروعًا بسيطًا، بعيدًا عن الوظائف التقليدية. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه شعر بالخفة، وكأن الأوراق اليابسة قد سقطت، وأفسحت المجال لزهور جديدة تنمو.
لم يكن الانهيار نهاية… بل كان بداية جديدة منحها الله له برحمته.
الانهيار