مقالات

التجريب الروائي

جريدة موطني

التجريب الروائي في رواية ” أبراج من ورق” للكاتب المغربي سعيد رضواني
بقلم/الحسين أيت بها
” إن العلة الوحيدة لوجود الرواية هي أن تقول ما يمكن للرواية وحدها أن تقوله…”، بهذه العبارة المميزة لميلان كونديرا والتي كانت نتيجة حتمية لقناعة مفادها: أن علة وجود الرواية، يكمن في استقصائها للبعد التاريخي في الوجود الإنساني، نمضي في قراءة رواية “أبراج من ورق” للقاص والروائي المغربي سعيد رضواني، وعلة الرواية ووجودها يتجلى في اكتشاف الروائي ل”أناه” الداخلية، وهو بصدد ممارسة فعل الحكي، ومن هذا التصور نستطيع وضع روايتنا قيد الدراسة، في المكان الذي تليق به، بوصفها أول عمل روائي جديد لصاحبها، وطريقة جديدة في التجريب الروائي نسبة لمبدعها الكاتب الذي خبر أساسيات الكتابة السردية وتقنياتها عبر انتقاله من الكتابة القصصية إلى الرواية، وما صاحب هذا الانتقال من تطور وتجديد على مستوى الشكل والكتابة، برز منذ تسعينيات القرن الماضي.
وإذا كان التجريب في الرواية قد بلغ مستويات كبيرة، وحمل معه تقنيات جديدة، وما طبع هذا الانتقال من الكتابة القصصية صوب الرواية ـ كما أسلفنا سابقا ـ فإن الكاتب يعد من جيل تسعينيات القرن الماضي لكتاب القصة، ويعد امتدادا لجيل الرواد في المغرب”. وهم الأقدر على الكتابة في الرواية والتجديد فيها بنفس وأسلوب مختلف”
فإن رواية ” أبراج من ورق” بلغت مستوى عال من التجريب على مستوى تعدد وحداتها الحكائية ومواضيعها، وهي تنتقل من موضوعة إلى أخرى عبر فصولها الشيقة، لتحمل لنا هاجسا أبديا رافق الشخصية البطل منذ الصفحات الأولى من الرواية، هذه الشخصية هي التي يتخفى بداخلها السارد، بفضل ممارسته للعبة السرد بطريقة مختلفة عن باقي الروايات التقليدية، وما يميز الرواية القدرة على النفاذ والانسياب لتسلل بحذر إلى ذهن القارئ، وتمسك بتلابيبه فتدفعه إلى قراءتها، وبذلك تتغلغل في لا وعيه ولا شعوره، بفضل لغتها الأخاذة والرشيقة، وتتقاطع حكاية الابن مع حكاية الأب والجد مالك الضيعة، لتخلق عالما خياليا، يتداخل فيه الواقعي والتخييلي، في حكاية اتخذت لها مكان البادية بطبيعتها وطقوسها، لتندمج وتتناغم الحكاية بين الواقعي والرمزي في آن واحد، حيث يتجلى الواقعي من خلال محاولة الابن كشف خيوط جريمة راح ضحيتها أبوه في صغره في زمن غابر، وعالم الخيال حيث ينتقل بالواقعي من عوالم شخوصه إلى الرمزي المتمثل في رواية كتبها الأب قبل وفاته، ليتجسد العالم الواقعي “ضيعة الاسمنت” في الورقي الذي حاول أبوه حفظه من الضياع، عن طريق تسليم مفاتيح الضيعة لأحد جيرانه الذين يثق بهم. إن الرواية التي وقعت في يد الابن نسخة مخطوطة وقبل ذلك كتاب مطبوع، سكب فيه أبوه بكائيته على الورق، وهو يسرد ما جرى ووقع له من معاناة وظلم، فسرها الابن على أنها محاولة من الأب لطمس معالم جريمة نكراء، كان هو نفسه ضحية لها، لكي يبعد ابنه عنها، ويحميه من ظلم وبطش القاتل، لكن الأجداث في الرواية ستسلك مسارا معاكسا لرغبة الأب، إذ سرعان ما جرفت الأحداث والذكريات السارد/الابن للتفكير في الانتقام من قاتل والده، وهو ما يفسر عودته للبادية.
تقنيات الكتابة في رواية أبراج من ورق:
تقوم الرواية على التجريب، ويستمد شرعيته انطلاقا من تقنيات الكتابة القصصية، الذي متح منه الكاتب سعيد رضواني، فاختمرت تجربة الكتابة عنده، لتشكل قوالب سردية، كان الكاتب يتدرب على إفراغها في الرواية، ومن بين هذه التقنيات السردية المضمرة في الرواية، والتي تكشف عن طريقته المميزة والمختلفة في السرد، التماهي بين الشكل والمضمون من خلال تقنية التناظر بين الفصول، والتجربة المرآوية التي تقوم على مضاعفة الكتابة، وتكرار المعاني والألفاظ بغية توليد نصوص جديدة
وسيركز تحليلنا على تقنية التناظر، بما أنها شكلت العنصر الأساس في بناء معمار الرواية.
العناوين:
ويتجلى ذلك من خلال التناظر بين الجزء الأول والثاني، والذي يحمل عنوانين متقابلين، هما:
[سلم البرج الأول/ سلم البرج الثاني].
فهو معمار الرواية، والصورة التي شكلت مضمون العنوان، حيث يقوم العنوان: أبراج من ورق، بتلخيص واختزال مضمون النص، أي بناء أبراج الكتابة التي تشكل حكاية الجد، والتي تحمل رمزية الكتابة على الاسمنت في الضيعة، ورواية الأب الذي يحاول إخبار ابنه بحقيقة موته، ورواية الابن التي تصف تفاصيل حكاية البادية.
أما بالنسبة للعناوين الفرعية، فيمكننا تحديد التقابل على الشكل التالي:
[نسيج أشعة الشمس/ لحاف من صقيع].
[فرار من هواجس النفس/ ملاحقة هواجس الكتابة].
[ثمة جذوع وفروع/ ثمة حروف وكلمات].
[ويغمره البحر/ ويغمره البخار].
[مدينة الأموات/ مستوطنة الأموات ].
[تلال القميص/ أبراج الجاكيت ].
[منازل الموتى/ توابيت الأحياء].
[أزقة الكتب/ دروب السرد].
[نقارة الأحلام/ زعيق منبهات الأحلام].
[مواجهة الذات/ مكاشفة مع الذات ].
إن الوحدة العضوية لتقنية التناظر السردي في الرواية، القائمة على هذه المتقابلات، يفرز لنا التقابل بين الأب والابن أي الانتصار للذاكرة والأصل، وبين الطبيعة (الشمس/ الصقيع)، وهواجس النفس والكتابة والأموات والأحياء والقرية والمدينة، وأحلام البطل ومنبهاته، ومواجهة الذات ومكاشفتها، وتنبعث حكاية “أبراج من ورق” بفضل هذا التناظر السردي لتعبر عن مصائر متقاطعة وأماكن متنافرة، لكن القاسم المشترك بينها، هي اجتماعها في حكاية واحدة لخصت تظافر الكتابة والواقع لمساعدة البطل في فك معالم الجريمة التي راح ضحيتها الابن، ويظهر ايضا للانتصار لفعل الكتابة من خلال “الورق” رمز المقاومة الذي يتجلى في الرواية ويظهر، ويتمثل في كتابة رواية تجسد الصراع القائم بين الناس في البادية على الأرض، ولا يكون ذلك إلا بإعادة كتابة رواية جديدة، تنتصر لقيم الصمود والمقاومة، من خلال إعادة الاعتبار لمكانة الوالد، ومجد الضيعة الضائع، يتجلى في انتصار الابن عن طريق الإسراع في الكتابة.
وقد استطاع الابن تفكيك لغز المكان الذي بنى فيه الجد ضيعته، عن طريق تفكيك مضامين رواية والده، وتفكيك رموز الكتابة الاسمنتية، حيث كان الأب فطنا، فقد أطلق على قاتله اسم ” البطمي”، الذي هو في نهاية المطاف محمد باشكو الثري والمخرج السينمائي الذي طارد الأب وسلبه روحه. وأن الابن سيحاول إثبات جريمة محمد باشكو على الورق والأرض. وبهذا تكون الهندسة السردية لمخطوط الكتاب توازي أعمدة مباني ضيعة الجد. في تماه الخيال والواقع، بين الكتابة والحقيقة.

المراجع:
ـ أبراج من ورق، (رواية)، سعيد رضواني، الطبعة الأولى، 2023، دار الآداب، بيروت، لبنان.
ـ فن الرواية، ميلان كونديرا، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2017، الدار البيضاء، المغرب.
ـ قضايا الرواية الجديدة، الوجود والحدود، سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2012ـ دار الأمان المغرب.

*كاتب من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى