مقالات

التربية والتعليم في العراق

التر

:

التربية والتعليم في العراق
بين أمجاد الماضي وتحديات الحاضر

بقلم ا.م.د.محمود احمد المعماري رئيس لجنة الترقيات العلمية / تربية نينوى.

​تُعد التربية والتعليم الركيزة الأساسية لتقدم أي مجتمع ونهضته، فهما المسؤولان عن صياغة العقول وتكوين الشخصيات القادرة على إحداث التغيير الإيجابي. وفي العراق، هذا القطاع الحيوي يحمل في طياته تاريخًا عريقًا، لكنه يواجه اليوم تحديات جمة تتطلب وقفة تأملية عميقة وإصلاحات جذرية.
​من خلال عملنا في البحوث والدراسات ومتابعة شريحة الطلاب والمؤسسات التعليمية، تبرز ملاحظات مقلقة حول مخرجات العملية التعليمية الحالية. لقد طُرح مؤخرًا في مجلس أكاديمي تربوي كريم للنقاش، تحديات تواجه طلاب الدراسات العليا، وهي تكشف عن ضعف متراكم يبدأ من المراحل التعليمية الأولى. تتمثل هذه التحديات في ضعف الإملاء والقراءة، وسوء الخط وعدم وضوحه، إضافة إلى استخدام مفردات ومخرجات معرفية ضعيفة لا تمت للمعرفة الحقيقية بصلة.
هذه الملاحظات لا تشكل قضايا هامشية؛ بل هي مؤشرات خطيرة على تدهور جوهري في بنية التعليم الأساسي.
​إرث الماضي الذهبي وأثره العالمي
​عند المقارنة، لا يسعنا إلا أن نستذكر التجربة التعليمية في العراق خلال الستينيات والسبعينيات وحتى بداية الثمانينيات، تلك الحقبة التي شهدت مخرجات تربوية تثير الإعجاب والتقدير. كانت تلك المخرجات تتسم بالرقي والاحترافية: طلاب متعلمون، مثقفون، مجتهدون، مهذبون، ومحترمون. بل إنهم كانوا قيادات تحمل كاريزما فريدة، قادرة على التأثير والبناء.
​الأهم من ذلك، أن هذا الجيل الذي صقلته التربية والتعليم في تلك الفترة قد أخرج لنا الكثير من القادة والعلماء العظام الذين كان لهم أثر ليس على مستوى العراق فحسب، بل على مستوى الوطن العربي والعالم أجمع. أسماء لمعت في سماء الفكر والعلم والإبداع، كشواهد حية على جودة ذلك التعليم. نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
​في الهندسة المعمارية والفنون، كانت المبدعة العالمية الراحلة زها حديد.
​في الفكر الاجتماعي، الأستاذ الدكتور علي الوردي.
​في التاريخ، الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الحسني، والأستاذ الدكتور عبد المنعم رشاد المتخصص في التاريخ الأندلسي، والأستاذ الدكتور محمد علي داهش المتخصص في تاريخ الوطن العربي والمغرب العربي.
​في الفكر الإسلامي والعربي، الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل.
​بالإضافة إلى قامات أدبية وشعرية وفكرية وفنية عديدة مثل:
​الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري.
​الشاعر بدر شاكر السياب.
​الروائي غائب طعمة فرمان.
​الفنان التشكيلي جواد سليم.
​المفكر والمؤرخ مصطفى جواد.
​والكثير من الأسماء اللامعة في اللغة والأدب والاجتماع والفلسفة والكيمياء والفيزياء وسائر العلوم.
​هؤلاء وغيرهم كثيرون من العلماء والأدباء والفنانين، كانت أسماؤهم لامعة، وقدموا إسهامات نوعية. أكبر دليل على جودة تلك المخرجات هو ما نراه اليوم من انتشار للعلماء العراقيين، معظمهم من مواليد تلك الفترات أو ممن تلقوا تعليمهم في السبعينيات والثمانينيات، في بلدان أوروبا. هؤلاء لا يكتفون بالعمل في المؤسسات العلمية، بل يقودون مؤسسات طبية وأكاديمية كاملة، ويقدمون إسهامات فكرية وعلمية عظيمة حتى لأوروبا التي تُعرف بغناها بالعلماء وتميزها في التعليم. هذا يؤكد أن مخرجات تلك الفترة كانت فريدة وناجحة جدًا، وأنها قدمت للعالم قادة فكر وعلم حقيقيين.
​دور المعلم والانضباط
​يكمن جزء كبير من سر ذلك النجاح في دور المعلم في تلك الفترة. لم يكن المعلم مجرد ملقّن للمعلومات؛ بل كان يعمل بذمة وضمير، ويمثل دور القائد الحقيقي داخل الصف وخارجه. كانت هناك شدة في التعامل مع الطلبة، ليست قسوة بل انضباطًا يهدف إلى صقل الشخصية وغرس الجدية والالتزام. وقد أتت هذه الشدة ثمارها اليانعة.
​كما كانت هناك عقوبات فريدة، قد لا تتناسب بالضرورة مع مقاربات التعليم الحديثة، لكنها كانت فعالة في فرض الانضباط والتركيز. على سبيل المثال، عقوبة الوقوف على رجل واحدة وتحريك الرجل [لمدة 45 دقيقة أو حتى نهاية المحاضرة]، كانت تُطبق بصرامة حسب طبيعة الخطأ الذي ارتكبه الطالب، سواء كان تقصيرًا في تحضير الدروس أو حديثًا جانبيًا أثناء الشرح. هذه الممارسات، رغم اختلافنا اليوم حول منهجيتها، كانت تعكس بيئة تعليمية لا تتسامح مع الإهمال وتُعلي من قيمة التحصيل العلمي والانضباط الشخصي.
​تحديات الحاضر ودعوة للمستقبل
​إن التحدي اليوم يكمن في كيفية استعادة هذه الروح التعليمية الأصيلة. كيف يمكننا أن نعيد للمعلم مكانته القيادية ونغرس فيه روح الذمة والضمير؟ وكيف نستطيع بناء نظام تعليمي يعيد إنتاج مخرجات تعليمية راقية قادرة على بناء مستقبل العراق، مع الأخذ في الاعتبار التطورات التربوية والنفسية الحديثة؟ نتمنى أن تكون هناك ندوات وورش عمل مكثفة حول هذا الموضوع، للوقوف على نقاط الضعف ومواطن القوة في التربية والتعليم. الهدف هو الارتقاء بالتربية والتعليم ليصبحا ناجحين ورائعين، فمستقبل أجيالنا ومكانة العراق الحضارية مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بجودة ما نقدمه لهم من تربية وتعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى