مقالات

الحقيقة والتهويل.. احذروا الفتنة!

بين الحقيقة والتهويل.. احذروا الفتنة!
بقلم: عبدالحميد نقريش

في خضمّ المشهد المأساوي الذي شهدته البلاد مؤخرًا، عقب الحادث المروع الذي وقع على أحد الطرق السريعة، لم يكن المشهد المروري وحده هو المأساة، بل ما تلاه من سلوكيات عشوائية وغير مسؤولة على منصات التواصل الاجتماعي، زاد المشهد ألمًا وخطرًا.

فبين مقاطع الفيديو المتداولة، والصور الصادمة، والصرخات الغاضبة، اختلطت الحقيقة بالشائعة، وتحوّلت المأساة إلى ساحة فوضى رقمية تعجّ بالمغالطات، وأحيانًا بالتحريض، في ظل غياب شبه كامل للتحقق والمصداقية. الأخطر من ذلك، أن معظم المواد المتداولة كانت لمقاطع قديمة، يُعاد نشرها وكأنها توثق لحظات الحادث الأخير، ما يُسهم في تضليل الناس وإثارة الرأي العام دون وعي أو فهم.

ومن بين أبرز الشائعات التي تم تداولها مؤخرًا، انتشار مقطع فيديو يدّعي زورًا أن أسرة كاملة من مدينة المنصورة قد انتحرت بإلقاء نفسها من فوق كوبري طلخا. هذا الادعاء كاذب تمامًا ومفبرك، ولا يمت للحقيقة بصلة. وقد بدأت مباحث الإنترنت بالفعل في فحص الفيديو وتتبّع مصدره، تمهيدًا لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد من نشره وروّجه. مثل هذه الأكاذيب لا تجرّ سوى الفتنة، وتُعدُّ خنجرًا مسمومًا في خاصرة الوعي المجتمعي.

لا أحد ينكر أن الحادث كان مأساويًا، ولا أحد يطلب التغاضي عن الخطأ أو التستر على الخلل، لكن ما نطالب به – وبوضوح – هو الحذر من الفتنة، التي لا تقل خطورة عن الحوادث نفسها. الفتنة الإعلامية، والفتنة المجتمعية، وفتنة الشائعات، كلّها كفيلة بأن تجرّ بلدًا مستقرًا إلى مستنقع التوتر والفوضى.

لا يمكن للإعلام – المرئي والمسموع والإلكتروني – أن يبقى متفرجًا على سيل الأكاذيب والمعلومات المضللة، بل يجب أن يكون في مقدمة الصفوف لمواجهتها، بتوضيح الحقائق، وتفنيد المغالطات، وتقديم صورة موضوعية ومتزنة لما حدث ويحدث.
إنّ الإعلام ليس ناقلًا فقط، بل موجّه ومُربٍّ ومسؤول.

كما أن الجهات الرسمية مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإطلاق حملة توعية شاملة، تشمل خطورة المشي عكس الاتجاه – حرفيًا على الطرق، ومجازيًا في السلوك والفكر. فكم من حادث وقع بسبب عناد سائق اختار السير عكس التيار، فأنهى حياة أبرياء بلا ذنب.

دعونا نتأمل التجربة البرازيلية، التي واجهت ارتفاعًا خطيرًا في معدلات حوادث السير، فطبّقت نظامًا صارمًا من القوانين، رافقه جهد إعلامي ضخم، وبرامج توعية طويلة الأمد في المدارس والجامعات والمؤسسات. والنتيجة؟
انخفاض كبير في الحوادث، وتحسّن ملموس في سلوكيات القيادة واحترام الطريق.

أليس من الأولى أن نستفيد من تلك التجارب بدلًا من أن نظل ندور في دوائر الألم؟

المطلوب الآن.. وليس غدًا:
• وقف نشر المقاطع الصادمة دون تحقق.
• محاسبة من يضلّل الجمهور عمدًا.
• دعم الإعلام الواعي القادر على فرز الحقيقة من الفتنة.
• إصدار قوانين تُجرّم السير عكس الاتجاه دون استثناء.
• تفعيل حملات التوعية في الشوارع، وفي الإعلام، وفي المدارس.

الفتنة تبدأ بهاتف، وتكبر بتغريدة، وتنفجر بمجتمع فقد القدرة على التمييز.
نحن أمام لحظة فارقة: إما أن نختار الوعي، أو نسمح للفوضى أن تنتصر.
احذروا الفتنة.. فإنها لا تترك وراءها إلا الخراب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى