
الدراما الرمضانية: بين غياب القضايا الحقيقية وتشويه القيم المجتمعية
بقلم . عبدالحميد نقريش :
تعد الدراما واحدة من أقوى أدوات التأثير في المجتمعات، حيث تشكل وعي الأفراد وتعيد رسم صورة الواقع في أذهان المشاهدين. ولكن في السنوات الأخيرة، خاصة في الموسم الرمضاني، باتت الأعمال الدرامية تميل إلى تقديم محتوى بعيد عن القضايا الحقيقية التي تمس المجتمع المصري، وبدلاً من ذلك، تكرس أنماطًا سلبية تساهم في تشويه القيم المجتمعية وتقديم نماذج غير واقعية أو هدامة. فهل أصبحت الدراما مجرد وسيلة تجارية لتحقيق الأرباح، أم أنها فقدت رسالتها تمامًا؟
1. غياب القضايا الحقيقية: تجاهل هموم الشباب والمجتمع
لطالما كانت الدراما وسيلة فعالة لعكس مشكلات المجتمع وتسليط الضوء على التحديات التي تواجهه، إلا أن معظم الأعمال الرمضانية أصبحت تدور في دائرة مفرغة من القصص المستهلكة والمكررة، متجاهلة القضايا الجوهرية التي تمس المواطن المصري، وأبرزها:
• البطالة وتأثيرها على الشباب: لم نعد نرى أعمالًا تناقش معاناة الشباب في البحث عن فرص عمل حقيقية أو كيف يمكنهم تطوير أنفسهم وسط التحديات الاقتصادية الحالية.
• الأزمات الاقتصادية: بدلًا من تقديم صورة صادقة عن الوضع الاقتصادي وتأثيراته على الأسر المصرية، نجد قصورًا فاخرة، وحياة مترفة لا تعكس الواقع.
• التعليم والصحة: في الوقت الذي يعاني فيه الطلاب من مشاكل نظام التعليم والصحة العامة تواجه تحديات كبيرة، نادرًا ما نجد عملًا دراميًا يسلط الضوء على هذه الأزمات بشكل جاد ويبحث عن حلول لها.
إن غياب هذه القضايا من المشهد الدرامي لا يعني أنها غير موجودة في الواقع، بل يعكس إصرارًا على تجاهلها لصالح محتوى أقل أهمية، لكنه أكثر جذبًا تجاريًا.
2. تقديم نماذج سلبية دون رادع: متى نتوقف عن تمجيد الانحراف؟
في كثير من الأعمال الدرامية الحديثة، أصبح التركيز منصبًا على شخصيات المجرمين، عديمي الأخلاق، وتجار المخدرات، وكأنهم هم الأبطال الحقيقيون للمجتمع. فبدلًا من تقديم شخصيات إيجابية يمكن للشباب أن يقتدوا بها، نجد أن معظم المسلسلات تحتفي بالشخصيات السلبية دون تقديم أي رسالة واضحة تردع هذه السلوكيات أو تدعو للإصلاح.
• تمجيد الجريمة والبلطجة: أصبح من المعتاد رؤية شخصيات تتسلق سلم النجاح عبر العنف والفساد، دون أن تواجه عقابًا حقيقيًا في النهاية.
• تغييب القدوة الصالحة: في الماضي، كانت الدراما تزخر بنماذج شخصيات ملهمة كالأستاذ المثابر، الطبيب الناجح، أو العامل الكادح، أما اليوم فغالبًا ما يتم تقديم شخصيات خالية من المبادئ وكأنها النموذج الذي يجب اتباعه.
• إهمال الجوانب التربوية: في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع من تحديات تربوية، تأتي الدراما لتكرس مزيدًا من الانحراف الأخلاقي، دون تقديم أي محتوى يوجه الشباب نحو الطريق الصحيح.
إن تقديم هذه النماذج دون رسالة واضحة يؤدي إلى تطبيع السلوكيات المنحرفة وجعلها مقبولة اجتماعيًا، وهو أمر في غاية الخطورة.
3. غياب القيم الأسرية والمجتمعية: صورة مشوهة للأسرة المصرية
لطالما كانت الأسرة المصرية رمزًا للتماسك والدفء، لكنها في الدراما الحديثة أصبحت صورة باهتة لعلاقات مفككة مليئة بالخيانة، العنف، والصراعات غير المبررة. وكأن الدراما تحاول إقناع المشاهد بأن الأسرة المصرية فقدت روابطها بالكامل، وهو أمر لا يعكس الحقيقة على أرض الواقع.
• تشويه صورة الأبوين: في العديد من الأعمال، يتم تقديم الآباء وكأنهم إما ضعفاء وعاجزون عن إدارة أسرهم، أو قساة لا يهتمون بأبنائهم، مما يغذي فكرة أن الأسرة لم تعد ملاذًا آمنًا للأبناء.
• الترويج للخيانة الزوجية: أصبحت العلاقات غير الشرعية والخيانة عنصرًا أساسيًا في العديد من المسلسلات، وكأنها واقع لا يمكن تجنبه في المجتمع.
• تقديم الأسرة كنموذج للفشل: بدلًا من إبراز دور الأسرة في تنشئة جيل واعٍ وقوي، نجدها تُصوَّر على أنها بيئة مليئة بالمشاكل والعنف، دون تقديم حلول تربوية بنّاءة.
إن هذا التشويه لا يؤثر فقط على المشاهدين، بل يمتد ليؤثر على تفكير الشباب تجاه الأسرة والزواج، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في أحد أهم مكونات المجتمع.
كيف يمكن إصلاح المشهد الدرامي؟
1. تشجيع الأعمال الهادفة
يجب أن يكون هناك دعم وتشجيع للمؤلفين والمخرجين الذين يسعون إلى تقديم دراما تحاكي الواقع وتسهم في خلق وعي مجتمعي، بدلاً من الترويج للانحرافات السلوكية.
2. إعادة توجيه الرقابة
الرقابة يجب ألا تقتصر على حذف المشاهد الخارجة فقط، بل يجب أن تركز على المحتوى ككل، وتدعم الأعمال التي تعكس الواقع المصري بشكل حقيقي وتحمل رسائل إيجابية.
3. إنتاج دراما توعوية شبابية
يجب الاستثمار في الأعمال التي تناقش قضايا الشباب بواقعية وتقدم حلولًا، سواء من خلال دراما اجتماعية هادفة أو برامج وثائقية تفاعلية تساعد الشباب على فهم واقعهم بشكل أعمق.
4. إبراز النماذج الإيجابية
يجب أن تسلط الدراما الضوء على الشخصيات الناجحة والمكافحة في المجتمع، وتبرز قصص النجاح الحقيقية التي تلهم الشباب بدلاً من إحباطهم.
الدراما الرمضانية: بين غياب القضايا الحقيقية وتشويه القيم المجتمعية
الدراما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي أداة قوية يمكن أن تسهم في تشكيل وعي المجتمع، سواء بالسلب أو الإيجاب. وإذا كانت المرآة تعكس ما أمامها، فإن الدراما اليوم تقدم صورة مشوهة لا تعبر عن حقيقة المجتمع المصري. آن الأوان لإعادة تقييم المحتوى الدرامي الرمضاني، والتوجه نحو أعمال تحمل رسائل هادفة، تعكس الواقع بصدق، وتسهم في بناء أجيال أكثر وعيًا وإيجابية. الدراما يمكن أن تكون جسرًا نحو مستقبل أفضل، ولكن فقط إذا اخترنا أن نجعلها كذلك.