المقالات

الصورة بوصفها خطابًا مرئيًا مؤثرًا

جريدة موطنى

الصورة بوصفها خطابًا مرئيًا مؤثرًا

بقلم م. نور حبيب عبد الكريم

      الصورة داعبت خيال الإنسان منذ الأزل، حتى إنسان الكهف رسمها على الجدران وحفرها بدايةً حتى قبل أن يخترع النّار، كان يريد أن يطبعَ حكاية، كان يريد أن يعبّر عن صورة في مخيلته؛ لأن الدنيا كانت ظلامًا فحفرها على الجدران، ثم اخترع ألونًا وهي عبارة عن دماء الحيوانات كي يروي لنا حكاية نهاره التي رآها تحت ضوء الشمس. فالصورة كانت وما زالت تترجم عن تصورات صاحبها ومعتقداته وأيديولوجيته، وتسعى إلى التأثير في موقف المتلقي وتوجيه تصوراته، فالإنسان القديم عندما حفر صورة الحيوان على جدران الكهف، اعتقد أنه يصطاد روح الحيوانات عند رسمها، ما يسهل عليه عمليه صيدها في ساحة الغابة، أو قد يمثل ذلك رغبته في إظهار احترامه للطبيعة الأم وتحية لها، أو توثيقًا لعمليات الصيد التي فعلها هو أو أحد أقاربه. 

        وفي عصرنا الحاضر نعيش عصر الصّورة، فكل شيء في مواقع التواصل الاجتماعي يتمحور حول الصّورة، فطالما كانت الصّورة المبهرة تجذب المتلقي وتشده سواء كان فردًا أم جمهورًا وتؤثر فيه، بل وتفرض قوتها عليه، وهذا ما أدركته الحكومات والشركات التجارية، فاستخدموها لتوصيل الرسائل وحشد الجماهير ومخاطبتها لدعم قضية ما، أو تحريضهم ضد قضية ما، من خلال توظيفات الصورة في إطار توثيقي للواقع أو تشويه له حسب الهدف منها، فالصورة تطرح كلاعب مهم في إشكالية التفكيك أو البناء المطلوب داخل الأوطان وخارجها، فالصورة ليست محايدة، وأي استخدام لها في التواصل البشري هو بلاغي، فملتقط الصورة أو صانعها يحاول التركيز على قضية ما بحيث يكون ذا تأثير في المتلقي، ومصداق كلامنا الوقوف عند بعض الأمثلة وتحليلها:

 فصورة رائد الفضاء الأمريكي ” أدوين آلدرين” الذي أول من وطأت قدماه سطح القمر على بساطتها تحمل أبعادًا أيديولوجية مؤثرة، فهو يقف مع العلم الأمريكي المثبت على سطح القمر كناية عن الهيمنة والقدرة الأمريكية على الغزو، فبهذه الصورة إقناع للمتلقي بقوة أمريكا وسيطرتها وامكانيتها من غزو الفضاء أيضًا وليس كلّ مكان في الأرض تطمع فيه فقط، وهذا خطاب قوي جدًا لا يمكن اغفاله، عبّرت عنه الصورة بايجاز وكثافة.وهذا ما يمكن تسميته بـ( سلطة الصورة).

   كذلك بالنسبة للصور الدعائية أو الإعلانية أو ما يسمى بـ( خطاب الإشهار) الذي يصل إلى المتلقي بوساطة وسائل الاتصال المختلفة، له تأثير كبير على حياة الناس، فهو قد يشجعهم على اقتناء سلعة ما، أو تناول طعام ما، فلو نتوقف عند صورة لإعلان (كاتشب) مثلا، نراها تستعير العنصر الرئيس المكون منه هذا المنتج ألا وهو ( شرائح الطماطم)، وفي ذلك كناية عن أن المنتج طبيعيّ، والرسالة للمتلقي بأنه مفيد وغير مضر بصحتك. فالجزء الخطابي هنا يتعامل مع الإقناع، اقناع المتلقي بالمنتج وجعله يشتري. وبذلك فإن الخطاب المرئي يحقق هذا الفعل بوساطة قوى لا تكاد تختلف عن قوى اللغة المنجزة، ويمكن عد خطاب الاشهار خطابًا حجاجيًّا؛ لأنه يحقق اقناع الآخر.

  كذلك من الخطاب المرئي المؤثر لإيصال رسالته هو (الحطاب الكاريكاتيري)؛ لما فيه من مجازٍ مرسل وثأثير، مجرد ما تقع العين عليه، كما في هذه الصورة:

     الصورة تشير إلى ( المرشح سوف) الذي يُروّج لنفسه؛ لانتخابه، فالمرسل هو والمتلقي (عامة الشعب) بشيخهم وصغيرهم، برجالهم ونسائهم، والرسالة كلام المُرسَل ( المرشح) وقد بدت واضحة هنا من خلال التعليق بـ( سوف/ حرف يشير إلى المستقبل البعيد لا محل له من الإعراب) فضلا عن جعلها اسم المرشح، والتي تكررت بشكل ساخر( سوف بالدهن الحر)، و مبالغ فيه؛ كناية عن التسويف في ما ينوي انجازه أو تحقيقه، لذا فهنا الرسالة اللغوية ساهمت في تدعيم وتوجيه الغرض المقصود من الصورة، فهم يأكلون ( سوف) ويعيشون على وهم انتظار تحقيق وعودها، وبهذا تكون هذه المفردة التلميحية (سوف) رسالة موجزة لعامة الناس بعدم تصديق المرشحين كالمرشح (سوف) الذي أسماه الرسام هكذا ؛كناية عن خطابه التلاعبي والتسويفيّ، فبتكرار كلمة (سوف) كان التأكيد على أنها المدلول المراد تمثيله عن طريق الدال ( اللفظ والآيقون).

     ولا بد من الإشارة إلى قضية مهمة جدًا ألا وهي أن بلاغة الصورة وتأثيرها، يختلف من متلقٍ إلى آخر، لكن ما يُتفق عليه أنها تصل حتى إلى من لا يقرأ أو يكتب؛ لأنها قد تلخص لواقع معيش ، أو تقترح وجهًا جديدًا له، وهذا ما لاحظناه في رسومات جدران ( نفق التحرير) التي حملت رسالة الثورة آنذاك وأقصد (ثورة تشرين) وكانت عاملاً مؤثرًا لدى الكثيرين؛ لأن الكثير منها يُعنى بالإنسان وصلته بوطنه، وهنا بؤرة التأثير، منها لوحة (حروفية للشهداء) للرسام (سجاد مصطفى)، التي عززَ فيها حضور الإنسان كقيمة، فقد رسم لوحته بأسماء الشهداء؛ ليخاطب عقل المتلقي بأن هذه الثورة سقيت بدماء هؤلاء الشباب، وأسماؤهم التي نسجت اللوحة كانت كناية عن انتمائهم لهذا الوطن بمختلف محافظاته، فهم ليسوا غرباء، إنما فسيفساء من الشباب الذين ناضلوا من أجل عراقٍ معافى، لذا كانت هذه اللوحة الواقعية مختلفة ومؤثرة .

*الإقناع في الخطاب المرئي:

 ( فيديو الديناصور “فرانكي” يلقي كلمة في الأمم المتحدة ) محذرًا العالم من التغييرات المناخية أنموذجًا، يستطيع المرسل إقناع المتلقي بمجرد أن يُضمّن خطابه مجموعة من الحجج والبراهين، ويشتمل على حقائق من الواقع. فالإقناع وظيفة حجاجيّة، يهدف إلى التأثير في المتلقي إمّا لتدعيم موقفه، وإمّا لتغيير رأييه. فإذا كان الجمهور عامًّا يكون (حجاجًا إقناعيًّا) يرتبط بما هو عقلي، أمّا إذا كان الجمهور خاصًّا فنحن بإزاء حجاج اقناعي يتعلق عادة بما هو ذاتي.

      وخطاب الديناصور ” فرانكي” في رحاب الأمم المتحدة، كان خطابًا عامًا للعالم أجمع، المرسل أو الباث ( فرانكي الديناصور) والمتلقي ( البشرية جمعاء) والرسالة ( احموا أنفسكم من الانقراض)، وما دام الحديث عن انقراض البشرية؛ بسبب التغييرات المناخية التي تحدث بفعل الإنسان وتشويهه للطبيعة، استُعيرَ بمُرسل أو متحدث ( ديناصور) بدلًا عن الإنسان؛ كنايةً عن الانقراض من جهة؛ لأن الديناصورات انقرضت منذ سنوات، وأن يخلق بينه وبين الحجاج ألفة ممّا يجعله مؤهلًا لتقبله من جهة أخرى. فهذه الصورة المرئية كانت بحد ذاتها رسالة مؤثرة، هذا فضلًا عما تحدث به الديناصور، وتأكيده على أن البشر اختاروا الانقراض بأنفسهم واعتبرها مفارقة عجيبة بتساؤل ساخر أن كيف يختار الإنسان لنفسه طريق الموت والانقراض، موضحًا بحسن تعليله أن الديناصورات وهي حيوانات لا تملك العقل لم تختر الانقراض بنفسها وإنما كان انقراضها بفعل النيازك؛ لكن البشر اختاروا الذهاب نحو كارثة مناخية بأيديهم، وبذلك ألقى عليهم الحجة، وأوصل رسالته التوعوية المؤثرة. فالخطاب المرئي حقق مبتغاه من خلال المتحدث (الديناصور) مرة لعلاقته بقضية الانقراض، ومرة أخرى من خلال العنوان الذي لفت انتباه الجميع لمتابعة الخبر (ديناصور في مقر الأمم المتحدة)، كل ذلك كان رسالة وتأكيدًا للمتلقي على خطورة التأثيرات السلبية التي يقوم بها الإنسان تجاه البيئة والمناخ.

الصورة بوصفها خطابًا مرئيًا مؤثرًا

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار