العــــــــــــــــــــــــائد
بقلم الكاتبة أمــــــــــــــال بن شارف
لم يكن يتخيل أن سنين غربته التي حك شموسها وأقمارها من ماء جبينه، أن غُدوه وجيّه كان عبثا، وأن ضربة حظه، ستكون مقصلة عمره. عاد مثقلا بحنينه، يخففه شيء من ذكرياته. لم تفارقه صور ضمتهم حول مائدة الطعام، ضحكاتهم التي كانت تتشتت في أرجاء البيت كما يتشتت الربيع ناثرا أزهار نيسان على خد الطبيعة الأخضر. افتكر تزاحمهم على موقد النار في ليالي الرعود والأمطار؛ فانحدرت من مقلتيه عبرة كان يعاندها وتبعتها خليلاتها تزفها، ترسم دروبا الحسرة على وجنتيه. لم يمسحها، بل تركها تنظف وجعه. أغمض عينه ليرى أمه ويسمع كلماتها التي كانت تُعرف بها ولا يرتلها غيرها، استطعم ذوق خبزها وقهوتها على لسانه، ووهلة شعر بها وشم رائحتها رائحة الدفء. لم يكن يعتقد أن للدفء رائحة أو شكلا أو حتى اسم لعلّه في أبهى صوره وفي أسمى معانيه هو “الأم”.
تُرى! كيف عاد شكلهم وهل هم في شوق ذّباح إليه كما هو توّاق للمح ظلالهم. انتهت الرحلة الطويلة التي غلبتها العبرات والذكريات وانتصر فيها الحنين، لم يشك؛ لوهله، أنه كان عليه ألا يعود لأنه ممن لا يجب أن يعودوا، أو خيرٌ لهم أن لا يعودوا. طرق باب بيتهم القديم واستحضر المرحومة والدته وهي تفتح له باب البيت ثم تختبئ وراءه بحشمة وتستقبله بحفاوة المحب المشتاق. توقع أن يفتح باب بيتهم والده أو أحد من إخوته الأربعة. بعد انتظار وجيز فتح الباب رجل بوجه غير مألوف سائلا: -ماذا تريد؟
-من أنت؟ هذا بيتنا! وبضحكة مسحوبة من أعماقه علت قهقهته فوق بعضها البعض رد قائلا:
-هل أنت ثمل يا صاح! اُحرج وتلعثم العائد ثم أنشأ قائلا:
-معذرة! قد قضيت دهرا في سفرة، ومضى عهد انقطعت فيه أخبار أبي وإخوتي عني، فعزمت أن أصلهم. لم الضاحك قهقهته بعد أن قرأ في وجهه صدق حديثه. تردد قليلا فرده كان يبت خيبة مريرة للعائد، ثم هتف:”
-هذا بيتي وقد ابتعته منذ ثلاث سنين من أربع إخوة. رد الأخ الأصغر في عجل:”
-هل تعلم أين رحل أصحابه؟ أو كيف السبيل إليهم؟
جاء رد صاحب البيت يابسا:”
-لا!
إن أفظع ما يمر بالمرء هو أن يعود لأماكن عادت مقفرة وأشخاص أمست أرواحا ترفرف في الأبدية. ظل تائها يفتش عن إخوته وأبيه، وبيت يأويه لأيام، لا يكن ولا يهن حتى اهتدى إلى رجل رأف لحاله فدله على مربع إخوته. كان اللقاء صردا أُجاج. لم يتعرفوا عليه بادئا واجتهدوا في انكاره حتى لم يجدوا مناص من حججهم الواهية التي لم تثبت إلا أنه أخوهم الأصغر. وقف أمامهم وقفة يوليوس أمام بروتس وقد ذعر لتغير تقاسيهم وأخلاقهم، فقد خولط الشيب بشعرات شبيبتهم فخلطها، وقد كفرت طبقات من الشحم بنيتهم فترهل منها ما ترهل حتى طفى الكبر عليهم وبان ظاهرا كشموس الظهيرة.
بلغه منهم أن والده قضى هو وأخوه الأوسط في حادث مفجع، فباعوا البيت وانفصلوا كل التهى في شأنه. جثا على ركبتيه وقد عصفت كلماتهم بلبه وأتت على ما تبقى من رشده وأخذت به مآخذ الجنون والهلوسة. ثم تفطن لثمار سنواته التي سقاها من ماء جبينه، وقف وفي وقفته انحناءة من قوضته السنين وأخضعته نوائب الدهر، وبين رعشة يديه ورجفة شفتيه، رابه أن يلقي سؤاله فيزيد فاجعته، وبعد تلجلج كابد فيه حربا ضروسا بين رغبته وخوفه، ألقى بكلماته:”
-ولكن …أين مالي وتعب السنين؟
ثم رفع رأسه وأردف قائلا:”
-لقد كنت أبعث المال لأبي كي يذخره، يأخذ نصيبا منه حق أبوته وجزاء عما قاسى في سبيلنا، كان كلما انقضى العام أطلعني على حصيلتي لا ينقص دينارا ولا يزيدا فلسا. ثم سكت عن الكلام في لحظة غلبها الصمت حين لا يليق الصمت؛ وكلما حاول تفحص أعين إخوته هربوا بلحظهم عنه يمنة ويسرة، فكان كمن يستنبط الماء من الصخر.
-أين أموالي؟ أطلق سؤاله كسهم فتاك أدرك محاولاتهم للهرب.
داهمه أكبر الإخوة بجواب وقع كالصاعقة عليه:”
-أي أموال؟ أتقصد تلك التي كنت تبعثها لأبيك؟ لقد أعتق بها والدك عنقه من دين، فأخذ مالك يفتدي به ماء وجهه.
كانت عبرات بكائه على فقد أبيه وأخيه لم تيبس بعد، لتهبط أخرى يبكي بها شقاءه وحصاد عمره المنهوب.
همّ إخوته بالاستئذان كأنما من خلفوه وراءهم غريب يسأل صدقة، أو عابر سبيل جاء يتوسم فيهم حسنة. وبينما هو عالق في دهشة مريرة، انتفض بكليته انتفاض الطائر المذبوح:”
-أين حقي من بيع البيت؟
تبادل الإخوة نظرات الغدر وبعد صمت وجيز تطوع أحد الإخوة وفي صوته حدة وقد ربط على حاجبيه جبروت الظالمين:”
-اسمع يا هذا، لقد أهملنا شؤوننا وجلسنا نستمع إلى حديثك أما وقد أنهيته، فلك خياران، أحدهما أن تعود من حيث جئت أو تقصد القضاء شاكيا باكيا تماما كما فعلت معنا.
وانصرفوا جميعا تاركين له الدهشة والخيبة وغصة لا تُبلع ولا تلفظ. تمنى لو أن نازلة من نوازل الدهر هوت عليه فتخطفت روحه من بين ثنايا جسده، خيرٌ له من وقفته أمامهم.
ظل يجوب شوارع المدينة هائما، شريدا، هائجا كبحر ضاق بأسراره وجروحه، لا يعلم أين السبيل كلما جلس في فيئ هرب إلى أشعة الشمس وكلما ألهبته خيوطها، حن للفيء تارة أخرى، لا يذوق اللقمة ولا يغمض له جفن إلى أن اهتدى إلى بيت عطف عليه صاحبه فأواه ثم أعانه على إيجاد بيت للإيجار بثمن بخسٍ. وما إن دخل بيته حتى وضع عنه أحماله الثقيلة وجلس يحدق إلى الهدايا التي جلبها لأبيه وإخوته. كانت حشرجة الكرب والقهر تعلو بصدره حتى يكاد ينفجر ثم تنزل به حتى كأنه يندثر.
بقي أسابيعا بنهارها وليلها معزولا عن العالم منزوي في غرفة من غرف البيت الذي استأجره لا يقوم إلا لسد ريقه حتى نفذ ماله وطُرِد من ذاك البيت فلم يطق السفر والرجوع إلى غربته الحنون ولا الخروج إلى العمل ليعيل نفسه. كان خائر العزيمة قد ردم جميع أماله وانتهى إلى استسلام بتار.
بعد أن كان يفتش على بيت أمسى يدور على حجرة تأويه من مخالب الشتاء اللاسع، حتى هوى على غرفة منسية إلى جانب إحدى الدور كانت مستودع للنفايات ومبيتا للكلب والضبع. ركّب بابا خشبيا كي لا تزاحمه الحيوانات في سردابه. كان يقطع يومه طاويا يبحث عن عمل يسد به رمقه ويقيم به ضنكه حتى يأخذه التعب مآخذ شتى فمرة يغمى عليه وأخرى يسترجع ما أكله أو يستسلم لبكاء طويل ثقيل.
وحدث ذات ليلة بينما يتوسد كومة قش، كان قد انتهى به اليأس إلى درك الانتحار. دغدغت فكرة الانتحار يأسه بشعور توهم للحظة أنه مريح، وظل يقنع نفسه المُعانِدة أنها دقائق معدودة ويستريح للأبد، أن الموت هو نوم هانئ طويل على أعتاب الأبدية، ظلّ يحلم بلقاء أمه وأبيه، كان مغمض العينين، وقد اكتست شفتيه ابتسامة الرضى، وبينما هو يعوم في أمنياته سمع خشخشة بين علبٍ كان قد صفها وصنع منها طاولة لطعامه حين يفوز في يومه برغيف. شخص ببصره وظل يرقب مكان الضجيج، حتى لمح خيالا يركض لم ير منه إلا ذيله.
-جرذ. اللعنة! صاح وقفز حتى مال ووقع على علبه التي هي طاولة طعامه.
في صباح اليوم الموالي استيقظ مهرولا إلى البقالة المجاورة ليبتاع سما لجرذه. لكن ثمن السم كان غاليا؛ أغلى من وجبة مشبعة لمدة أسبوع. عاد يائسًا يحمل خبزًا وتمراً. ارتخى على لحاف وظل ينصت لحركة الجرذ؛ وبينما هو يتناول حبة التمر ليسكت جوعه الكافر، سمع شجارا بين العلب، لم يكن صوتا واحدا، بل اثنين، “إنهما جرذان!”
رجع إلى البقالة على عجل وهدد صاحبها أنه إن لم يساعده في التخلص من الجرذان سوف يبيت إلى جانب المحل ويضايق زبائنه. لكن صاحب المحل احتج أن الجرذان لا تحب إلا نوعا واحدا من الأجبان وهو غالي جدا وكذا السم وهو لن يطيق دفع ثمنهما. طأطأ بالخيبة رأسه وظل على حاله حتى ظن أن صاحب المحل قد رأف لحاله حين قال:”
-حسنا، خذ قطعة الجبن هذه، وهذا السم رشه عليها رشا خفيفا. لم يشعر بلهفة الحصول عليهما وأحس أن الأمر لم يكن يستحق عناء سحق كرامته، لقد توسل جبنا وسما ليقتل جرذانا.
سحب كلمة شكرا من لسانه سحبا، وبينما هو يغادر، استوقفه البائع منبها وفي تنبيهه تضاربت النيات:
-احذر، السم للفئران.
دخل غرفته متثاقلا وكانت روحه قد لفظت أخر ما بها من أمل. وبينما هو يضئ غرفته، رأى الجرذان يقضمان خبزه ويتقاسمان تمره وبدل أن يركض خلفهما هذه المرة ليقضي عليهما ابتسم لهما وظل واقفا وكأنما دفّئ منظرهما وحدته، انتظرهما إلى أن أتيا على آخر فتات من خبزته، ثم ألقى لهما الجبن الفاخر فنظر إليه أحد الجرذان في ريبة وقد يبس في مكانه ثم رجع لحاله يقفز ويركض مع صديقه، أما هو فاستلقى على الأرض وهو يرقبهما يلعبان بعد أن شبعا؛ حدق إليهما طويلا ثم قال وفي صوته رنة الحزن:
-أنتما خائفان من أكلها، فتموتا، وأنا أريد أن أكلها كي لا أموت تبقى قطعة الجبن هي… هي يا أصدقائي، نحن من نتغير. لقد فضلت أن أطعمكما إياها لأقتلكما على أن أتناولها لأعيش. صاحب المحل أعطاني خبزا وتمرا يابسا لأتعشى وجبنا فاخرا وسما غاليا لأقتلكما، أقسم لكما هذا ما حدث يا أصحابي! من اليوم أنتما أصحابي.” ثم أُخلط كلامه بغصة بكائه، ليُكمل حديثه محدقا إلى أحد الجرذين الذي بدا وكأنه ينصت إلى حديثه كأنما يفهم ما يقول:”
– كلهم أوغاد يا أيها الجرذ النبيل. فلا يحزنك أنني أحاول قتلك؛ تعلمتها من صاحب المحل وإخوتي. عالم دنيء! نحن يا صديقي نشبه هذا العالم كثيرا، أنا أعلم أنه في عالمك صاحب المحل وإخوتي جرذان حقيرة، نعم، كذلك نراك.
ومن تلك الليلة انقطعت أخباره فلم يعد يرى له ظل ولا يسمع له حس. استفقده صاحب المحل فذهب ليتأكد إن أصابه مكروه، وهناك وجده ملقى على الأرض وحوله جرذان كثيرة تملأ غرفته وبيده علبة السم فارغة وعلى بطنه يقف جرذٌ كبير، قد فاحت رائحة الموت من حنايا الغرفة، فهتف صاحب المحل وهو يغطي بذراعه أنفه وفمه من نتانة المكان:
“لقد قلت له أن السم للفئران!”
العــــــــــــــــــــــــائد