«{[ المهمشون فى الأرض قنبلة موقوتة ]}»
بقلمى : د/علوى القاضى.
… فى الصورة مشهد مؤلم جدا أثر فى نفسى أيما تأثير وهذا مادفعنى لكتابة مقالى هذا
… لا يؤلمني أنه لايملك هاتف ، ولايؤلمني أنه لايملك معطف يدفئه ، ولكن كل ماٱلمني وأوجع قلبى وأوقف نبضه أنه يسند نفسه على طرف المقعد ظنا منه أنه ليس من حقه الجلوس عليه ، ياللحسرة على ماوصل إليه الفقراء من إهمال وتهميش حتى أنهم نسوا حقهم فى الحياة وعاشوا الغربة فى أوطانهم ، وزادت قسوتنا عليهم حتى إنعدم إحساسنا بهم وبمعاناتهم ، وقد يكونوا عند الله سبحانه وتعالى أقرب ، وهم من تقضى حوائجهم قبل أن ترفع حواجبهم ، فعلم الله بحالهم يغنيه عن سؤالهم
… نعم الحياة مؤلمة عندما تصبح فيها غريبا فى وطنك ، فالفقر ليس الجوع والعرى والتشرد فحسب ، الفقر هو القهر والإهمال وإنعدام الأمن والأمان والتهميش
… هؤلاء زادت قسوتنا عليهم حتى صنفناهم وألصقنا بهم أسماء تميزهم عن علية القوم فأضفنا لهم ( الغوغاء والدهماء ، والرعاع والسوقة ، والغثراء والهمج ، والهلانث والوخش ، وأحيانا بغوغاء الناس ورجرجة الناس ، إذن من هؤلاء ومن يكونون ؟!
… من الأحاديث النبوية التى إهتمت بالفقراء المهمشين شديدة الرقة والعذوبة والجمال حديث : ( رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرَّه )
… أولائك هم المهمَلون المهمشون الفقراء ، لاتفتح لهم الأبواب ولاتقضي حوائجهم ولايرضى بهم الناس ، أحدهم يكون أشعث الشعر أغبر الوجه والثياب لايأبه الناس به ولايعيرونه إهتماما ، يدفعونه بالأبواب ويلاحقونه بنظرات الإزدراء ، وحاله لوأقسم على الله لأبره ، لايحتاج دعاء كدعائنا ، طول ذل وطلب ونحيب ، فقط يقسم على الله فيبر الله قسمه ، أغلى عند الله من أن يرده خائبا ، أى شئ تساوى الدنيا وأى شئ يساوى أهلها ؟! لكنه عند الله ليس بكاسد !
… إنهم المواطنين الشرفاء ، بالرغم أن جميع هذه الألفاظ فى مجتمعنا تدل على مجاميع سفلة الناس ، فهم أدوات المستبد وسر قوته ” فوضناك فوضناك ، وتسلم الأيادي ، واللي صان الارض ”
… وأقرب مثال للمهمشين فى منطقتنا ، مواطنون يمنيون يتعرضون للتمييز وغياب الحقوق ويعيشون أوضاعاً مأساوية وعزلة عن باقي المجتمع اليمني ، تُبْنى أغلب مساكنهم في أطراف المدن من القماش والكراتين يواجهون من الجوع والفقر والعوز وهم فى أمس الحاجة إلى توفير المساعدة والدعم لهذه الفئات ، وذلك من خلال توفير الرعاية الصحية ، والغذاء ، والمأوى ، والتعليم ، والتدريب المهني ، وضرورة الإلتفات إليهم ومحاولة تحسين أوضاعهم بشكل عام
… والتاريخ يقول عن هؤلاء أنهم أناس لم تكن لهم عقيدة ولافلسفة فى الحياة بل يساقون وفق أهواء من يستخدمهم ويستغل فقرهم ، واليوم يمثلهم بعض الحركات الطائفية على مختلف الاديان
… وحينما كنت أطالع أوصافهم فى كتب التراث التى تحكى عن حركة المجتمعات ومسيرتها مثل كتاب ( مقدمة بن خلدون ) وغيره ، وجدت أن هؤلاء هم من يدمرون الأوطان ويفسدوها ، وهى نفس الصفات التى نطلقها بنفس معناها اليوم على سياسين وإعلامين ومدعى الثورية أومعارضيها وأساتذة جامعات وتجار التراث وفنانين وكتاب وكثيرين ممن يرتدون البدل وربطات العنق ويطالعونك وكأنهم هم أسياد المجتمع والفكر والفن والثقافة ، وفى عميق الحقيقة هم تماما من يستحقون تلك الصفات ، الدهماء والغوغاء والرعاع والسوقة والمدعين ! بنفس معناها وربما أكثر وأشد مثل سدنة فرعون فالمعنى أصبح أشمل وأعم !
… ورغم ماسبق من شخصيات نجد أن ( الرعاعى ) هو الشخص الذي يتصف بتدني مستوى المعرفة والوعي ، والغباء العاطفي ، مايجعله خال من المواقف الأخلاقية تجاه الآخرين ، فإيمانه ساذج ، وعقله يخلو من التفكير ، وقيمه منحطة ، ينفي الآخر ويتماهى مع القطيع من أمثاله ويحتمي بهم ويمجد أفعالهم ، ولايرى في أفعال المجرمين أي حرج ، ويبرر لهم حتى وإن طاله منهم الضرر
… وقد أضاف المعجم العربي وصف بأن الرعاع هم :
التحوت والأرذال و الأنذال والأوباش والأوغاد والحثالة والدهماء والسفلة والسوقة والغوغاء والهمج والسقط وهي جميعها مرادفات لكلمة الرعاع ، أتمنى أن لايكون بيننا أحد منهم ، وإلافسد المجتمع وإنهارت قيمه ومبادئه
… والرعاعى متعصب جدا ، وتعصبه يعنى نفي مطلق للآخر قد يصل إلى حدّ القتل ، وعقله خاو من التفكير ، وإيمانه ساذج ، وقيمه منحطة ولغته محدودة ، يمشي وراء الطاغية المستبد دون خجل أو وجل ، ولذلك أتصفوا بأنهم التحوت والأرذال والأنذال والأوباش والأوغاد والحثالة والدهماء والسفلة والسوقة والعفاشة والعسافة والغوغاء والهمج والسقط
… سالني أحدهم عن وصف ٱخر للمهمشين وهو ( العياشة ) الذين يتحرشون بالأحرار فأجبته أن هؤلاء صنف من العامة لاتمييز عندهم ولاوعي ولاحلم ولاعقل ، كانوا على الدوام يستغلون من قبل أنظمة التسلط والدكتاتورية ، تحت أسماء ونعوت كثيرة ليقاوموا كل تغيير وكل جديد وإن كان في مصلحة الجمهور ، أويستهدف رفع الظلم عنهم ، أو تحسين جودة حياتهم ، وكان يطلق عليهم الرعاع والدهماء والسوقة وسبب هذه التسمية أنهم يساقون من قبل الحاكم الديكتاتور المتسلط ، لخدمة أغراضه ومصالحه بلاتمييز ولاوعي والسوقة هم من دون السلطان وقد يدفع بهم الحاكم لمواجهة خصومه عبر تاليبهم عليهم بعناوين مزورة بان يتهم معارضيه ولإخماد الثورات ضده
… ولهذا نجد في كتب التراث عبارات توضح استغلال المهمشين من قبل الحكام مثل ( يغرون بهم العامة ) و ( يسلطون عليهم الدهماء )
… رواية “رَبْع الرُّز” التى كتبها الروائي ( محمد اسماعيل ) يقول فيها على لسان المهمشين :
. . نحن المهمشون ، نحن البدائل ، نحن المُساء الظن بهم دوما ، نحن أصحاب الإعتذارات على أشياء لم نفعلها ، نحن تبريرات على أخطاء لم نرتكبها ، نحن الجانب السهل والطريق الممهد ، نحن المنتهزون كالفرص نحن الضائعون بلاملجأ ، والمتهمون بلاإعترافات ، نحن الشعور بالذنب والندم ومنتصف الطرق ، نحن العتمة المصطنعة ، نحن الأيادي المتروكة والقلوب المخذولة ، نحن الصدور التي لايعلم بزحام الألم فيها إلا الله
… المهمشون كما أنهم فى العالم الثالث فإنهم كذلك فى العالم المتطور ، في كوريا واليابان إلى يومنا هذا توجد طبقة المهمشين رغم الأجيال الخامسة من الذكاء الصناعي
… حتى في اليمن في يومنا هذا توجد هذه الطبقة ويرفض العامة ملامستهم خشية النجاسة رغم أنهم من أهم من حمل الفلكلور الحضرمي واليمني واليهودي حتى الفلامنكو في إسبانيا
… منهم ظهرت العوالم والغوازي في مصر ، وخرجت منهم كوكب الشرق أم كلثوم
… وقد تناول الأدب المهمشين فى مصر فيأخذنا الكاتب في رحلة إلى رَبْع الرُّز بمنطقة بولاق ، على هامش القاهرة وتحت خط الفقر حيث يسكن أكثر من ألفَيْ شخص من المهمشين ، وجه باطني من وجوه المدينة يحكمه الفُتوَّات وتسيطر عليه الخرافات ، فنلقي نظرة على شكل الشارع القاهري وقلب المقاهي والحمَّامات النسائية الشعبية نسمع مايدور من تناقل للأخبار ونشاهد مواكب العوالم
… تطل رواية ( رَبْع الرُّز ) على ماضي القاهرة حيث المُهمَّشون على الجانب الآخر من مجتمع الباشاوات
… وللأسف أن الكل يخطئون وكأن هناك قناعة لديهم أن أهل الهلس من الفن والرياضة هم القدوة ، وكأن أهل العلم والطب والقانون ، والترجمة والتفسير ، وأفذاذ الصناعة وافذاذ السياسة والجهاد ، والحروب والشهداء من أجل الوطن هم المهمشون ، وأهل الفن والمغني يكونوا المثل والقدوة ، وتلك هي المشكلة
… والكاتبة ( مى ) تأخذنا من حكاية إلى حكاية لترينا نوعا آخر من ( المهمشين ) ، وذلك بعد أن أصبح الكلام عن المهمشين أى ( قاع المجتمع ) موضة العصر بدعوى تشريح المجتمع وكشف مساوئه وتفتيح العيون على الحقائق ، هؤلاء المهمشون ( من وجهة نظرها ) الذين رصدتهم الكاتبة هم طلبة المدارس الأجنبية الذين لايجدون أنفسهم فى جامعاتنا ، إذا استبعدنا الرعاع والدهماء والسُوقة والأوصياء والغوغاء والأوباش والأنطاع والأجلاف والجُهلاء والسِّفلة والبلطجية والفَسَدة من أهل مصر الكرام ، وبالتالى سيتبقى تقريبا اربعة مليون ، ممكن نبدأ بهم بناء دولة مُتحضرة على أساس سليم
… ودائما الحكام الفسدة يحرصون على الدعوة إلى القبح ضمانا لبقاءهم لذا فإنهم يهتمون بالتغيير نحو الأسوأ وخوض غمار تجربة للتعرف على كوكتيل البياءة والفوضى والعشوائية ، حيث الرعاع يتجمعون والبلطجية يسيطرون ، والسوقة والدهماء يتمايلون والمشدوهين يتجولون ، فهذه من أقذر الأماكن وأكثرها عشوائية وإنحدار وإهمال
… ولأن المهمشين سيئون الحظ فى بلادهم فقد لوحظ هجرة كثيرين من الرعاع والدهماء والسوقة الي بلاد الخليج ، لعلهم يجدون حظا أوفر من الإهتمام وتحسن فى ظروفهم
… تحيتى لكم أيها المهمشون في الأرض ، يا من لاتلبسون ربطات العنق ، تحيتى لكم أيها الطيبون الذين أجبرتهم الحياة على أن يظهروا وجوهاً قاسية لاتمثلهم حتى لايستغبيهم الناس ، تحيتى لتجاربنا المقيتة ، لأخطائنا الحياتية التي لولاها لما كنا ثماراً ناضجة تستطيع أن تواجه عفن هذ العالم
… ( تربية المهمشين ) أسئلة كثيرة ، نحتاج الإجابة عليها قبل البدء فيها ، من هم ؟ ، ومن يهمشهم ؟ ، وما آليات رعايتهم ؟ ، وكيف يتم إدماجهم في المجتمع ؟ ، وما الضمانة التي تؤكد هذا الإندماج ، إذا أيقنا أنهم مهمشون فعلا ؟
… هذه قضية إنسانية تربوية حضارية ، وأن معالجة القصور والتراخي المتعلق بها هو من أهم الأمور التي يجب أن توليها التربية ومؤسساتها ومفكريها جل اهتمامها ورعايتها ، ولابد أن يكون هناك سياج من القيم والتشريعات والقوانين ، لإتمام إجراءات الرعاية والدعم
… وبداية يجب أن نحدد من هم بحاجة للإهتمام ، وذلك بالبحث عن كل من تم تجاهل رعايتهم أو الإعتناء بهم أوالنظر ٱليهم أوحمايتهم أوتلبية حاجاتهم ورغباتهم ، أوالذين لايلتفت الى مطالبهم ، ولايمنحون مايستحقون من رعاية ودعم ، أوالمستضعفين أوالمستبعدين من الرعاية الإجتماعية أوالإقتصادية أوالإنسانية أوالتعليمية ، أوالفكرية أوالاعلامية أوالتقديرية ،، الخ
… هؤلاء هم المهمشون وليس شرطًا أن يكونوا مستضعفين غفل عنهم التاريخ ، بل هم من ذلك التاريخ ، ومن المعارضين ، ومن أصحاب الثوراث والحركات ضد الدول بصفة عامة ، أولئك من المسكوت عنهم وغير المفكر فيهم ، والتهميش هنا عائد من دلالة اللغة في عدم الإهتمام وترك الشيء جانبًا
… وهم ليسوا فقط أصحاب العشوائيات ، أوأصحاب الحاجات الخاصة ، أوأصحاب الملاجئ ، أوالأحداث ، أو الريفيين ، أوأطفال الشوارع ، أو غيرهم ، بل إنهم أكبر من ذلك بكثير ، وهم أدعى للتفكير والإهتمام والرعاية والتدقيق البحثي ، إنهم أصحاب الفكر الذين لاينظر اليهم ولاإلى أفكارهم ، وهم أصحاب الإتجاه الآخر الذي لايدرس ، هم أصحاب الإبداع والأفكار النوعية التي لايلتفت إليها ، وهم أصحاب القدرات والمهارات غير التقليدية ولايهتم بهم أحد ، وهم القيادات الرائعة التي لاتجد رعاية ، وهم ناقوس الخطر في الفكر والتحليل والتفنيد ومنح الرؤى ، ولايعيرهم أحد أي عناية أونظر ، وهم ، وهم
… ولكن كيف نقوم برعايتهم مع وجود ( قوى تعمل لتهميشهم ) ! ، تلك التي تعمل في الخفاء بإستهتار وقسوة ، وتتحدى كل محاولات الإصلاح والرعاية والدعم ، ولأن التهميش يبدأ من حيث تنتهي الإرادة التربوية ، فعلى التربويين إستغلال مالديهم من قوة وأوجه رعاية وإهتمام مايعينهم ، لايجاد مساحة عندها نلغي التهميش ونؤسس للعدالة الإجتماعية والإنسانية والفكرية ، ووضع إطار عام أخلاقي مؤسسي تشريعي ، يكون ضمانة لكل جهودهم
… تحياتى …