مقالات

جزية الروم إلى هدايا اليوم: حينما تغيّرت موازين العزّة والهيمنة

جزية الروم إلى هدايا اليوم: حينما تغيّرت موازين العزّة والهيمنة

بقلم: محمود سعيد برغش

في عصور الخلافة الإسلامية الزاهرة، من زمن الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية ثم العباسية، كان ملوك الروم والفرس وغيرهم من حكام الغرب والشرق يرسلون الجزية إلى بلاد المسلمين، اعترافًا بقوة الدولة وهيبتها وسطوتها، واعتبارًا لها مركز القرار العالمي. كانت القوافل تدخل من أبواب عواصم الخلافة محملة بالذهب والفضة والخراج، إشارة خضوع لا مساومة، وتقديرًا لدولة العدل لا الجور.

كانت الجزية تُفرض على غير المسلمين مقابل الحماية والأمان الذي توفره الدولة لهم، في نظام واضح لا يشوبه استغلال ولا إذلال، بل كان كثير من أهل الذمة يفضلون الحكم الإسلامي على ظلم ملوكهم. فالدولة الإسلامية كانت تمثل آنذاك قمة في الحضارة والعلم والقوة العسكرية، وكان العالم يحسب للمسلمين ألف حساب.

أما اليوم، فقد انعكست الموازين وتبدّلت الأحوال. فصرنا نرى دولًا عربية وإسلامية، وخاصة في الخليج العربي، ترسل الأموال والهدايا إلى الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، لا على هيئة جزية صريحة، بل عبر صفقات تسليحية هائلة، واتفاقيات استثمارية ضخمة، ومشاريع يُروّج لها تحت مسمى “شراكات استراتيجية” وهي في حقيقتها نوع من الولاء السياسي والتبعية الاقتصادية.

في مايو 2017، وخلال زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، تم توقيع اتفاقيات بمبلغ تجاوز 400 مليار دولار، منها 110 مليارات صفقة أسلحة فقط. وقد تفاخر ترامب بهذه الزيارة، واعتبرها إنجازًا اقتصاديًا ضخمًا للولايات المتحدة قائلاً: “أموال كثيرة، وظائف كثيرة!”.

الإمارات العربية المتحدة أعلنت خلال السنوات الماضية عن استثمارات داخل الولايات المتحدة تجاوزت 50 مليار دولار، في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا، بحجة تعزيز العلاقات الاقتصادية.

دولة قطر موّلت قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها، أبرزها قاعدة “العديد”، التي تعتبر من أهم مراكز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، في إطار ما يسمى بالتعاون الدفاعي.

الجزية الحديثة؟

السؤال الصادم الذي يفرض نفسه: هل تحولت أموال العرب إلى جزية عصرية تُدفع للغرب مقابل الحماية والرضا السياسي؟ في الماضي، كانت الدولة الإسلامية تقبض الجزية من موقع القوة، واليوم تُرسل الأموال من موقع الضعف والارتهان. الأولى كانت رمز عزّ وسيادة، أما الثانية فهي علامة تبعية وتخلٍّ عن الاستقلال الحقيقي.

المفارقة أن هذه الأموال لا تُستثمر في بناء الإنسان العربي، ولا في نهضة تعليمية أو صحية، بل تصبّ في دعم الاقتصاد الغربي وتوفير الوظائف للأمريكيين، بينما يزداد الفقر والبطالة والأزمات في بلادنا.

تغيّرت الأدوار، وبدّلنا المجد بالهوان، وأصبحنا ندفع الجزية لا من موقع العزّة، بل من منطلق الخوف والسعي خلف الحماية الأجنبية. فما بين جزية الأمس وهدايا اليوم، سقطت الهيبة وضاعت السيادة، وبقي السؤال: هل من صحوة تعيد للأمة عزتها وكرامتها، أم سنظل نُحكم من الخارج وتُنهب ثرواتنا باسم التعاون والتحالف؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى