
دروس سقوط بغداد على يد التتار.. بين الماضي والحاضر
بقلم/محمود سعيد برغش

لا شك أن التاريخ مليء بالدروس والعبر، ومن أعظم المآسي التي حلت بالأمة الإسلامية سقوط بغداد عام 1258م على يد التتار، تلك الفاجعة التي أودت بحياة مئات الآلاف من المسلمين وأغرقت مدينة العلم والحضارة في بحر من الدماء. لكن الأشد إيلامًا من الحدث ذاته هو تكرار أسبابه في وقائع التاريخ المختلفة، وكأن الأمة لم تتعلم من أخطائها.
في هذا المقال، نستعرض أهم أسباب سقوط بغداد، مع الاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ونربط ذلك بالحاضر لنستخلص العبر.
—
أولًا: الغفلة عن الخطر الخارجي والانشغال بالصراعات الداخلية
من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العباسية آنذاك هو تجاهل الخطر المغولي، فقد ظل المسلمون في بغداد يشاهدون التتار وهم يكتسحون بلاد المسلمين واحدة تلو الأخرى دون أن يتحركوا، وكأنهم في مأمن من المصير نفسه. وفي الوقت ذاته، كانت هناك صراعات مذهبية وسياسية بين المسلمين أنفسهم، مما زاد من ضعفهم وانقسامهم.
وهذا تمامًا ما حذَّر منه النبي ﷺ حين قال:
> “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن”، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت” (رواه أبو داود).
وهذا ما وقع للمسلمين في ذلك الوقت، حيث انشغلوا بالترف والصراعات بينما كان العدو يتربص بهم.
—
ثانيًا: الثقة في العدو والتخاذل عن الإعداد العسكري
ظن الخليفة العباسي أن بإمكانه كسب ود هولاكو بالمراسلات والهدايا، ولم يدرك أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة. والأسوأ من ذلك، أن الدولة العباسية كانت غنية بالموارد لكنها لم تستثمرها في تجهيز جيش قوي، مما جعلها لقمة سائغة للمغول.
وهذا يتناقض مع توجيهات الإسلام، حيث يقول الله تعالى:
> ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60).
إن الإعداد العسكري والتجهيز للحرب لا يعني إشعال الصراعات، ولكنه ضرورة لحماية الأوطان والمقدسات، وهذا ما لم تفعله بغداد آنذاك.
—
ثالثًا: خيانة بعض المسلمين وتحالفهم مع العدو
من أشد المآسي أن بعض الحكام المسلمين ساعدوا التتار في غزو بغداد، إما طمعًا في مكاسب سياسية أو انتقامًا من خصومهم. وهذا يتكرر في كل زمان، حيث يوجد دائمًا من يبيع دينه وأمته بثمن بخس.
وقد حذّر الله تعالى من موالاة الأعداء بقوله:
> ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًۭا﴾ (آل عمران: 118).
كما قال النبي ﷺ:
> “من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله” (رواه الطبراني).
—
رابعًا: النتائج الكارثية لسقوط بغداد
بعد سقوط بغداد، عمّ القتل والدمار، ودُمرت المكتبات ودور العلم، وقتل مئات الآلاف من المسلمين، حتى قيل إن مياه نهر دجلة اختلطت بحبر الكتب ودماء الشهداء.
وهذا ما ينطبق عليه قول الله تعالى:
> ﴿وَاتَّقُوا۟ فِتْنَةًۭ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمْ خَاصَّةًۭ ۖ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 25).
أي أن الفتن حين تعمّ، فإنها تصيب الجميع، وليس فقط من تسببوا فيها.
—
العبرة من سقوط بغداد في زماننا هذا
حين ننظر إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم، نجد أن هناك أوجه شبه مخيفة مع ما حدث قبل سقوط بغداد:
هناك دول تعيش في حالة ترف وغفلة، بينما الخطر يقترب.
هناك حكومات تثق في أعدائها وتعقد معهم تحالفات، غير مدركة أن العدو لن يحترم العهود.
هناك انقسامات مذهبية وطائفية تضعف الأمة وتمنح العدو فرصة للسيطرة.
هناك من يخونون أمتهم ويقفون في صف الأعداء مقابل مصالح شخصية.
لكن الإسلام يعلمنا أنه لا يوجد واقع لا يمكن تغييره، فبعد سقوط بغداد بسنوات قليلة، جاءت معركة عين جالوت عام 1260م، حيث تمكن المسلمون بقيادة السلطان المظفر قطز من هزيمة التتار وإيقاف زحفهم.
وقد تحقق ذلك عندما عاد المسلمون إلى دينهم، واجتمعوا على كلمة واحدة، وأعدّوا العدة لمواجهة العدو.
يقول النبي ﷺ:
> “ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك” (رواه مسلم).
—
دروس سقوط بغداد على يد التتار.. بين الماضي والحاضر
الخاتمة
إن سقوط بغداد درس قاسٍ في التاريخ، لكنه يحمل في طياته عبرًا عظيمة، أهمها أن الأمة التي تترك الإعداد وتعيش في غفلة وانقسام، فإنها تسقط أمام أعدائها، لكن الأمل دائمًا موجود في عودة الوعي ووحدة الصف والإعداد الجيد.
فلنتعلم من الماضي، ولندرك أن “التاريخ لا يرحم الغافلين”.