قصة

ذهاب و إياب

ذهاب و إياب
قصة قصيرة / سعيد رضواني-المغرب

رغم سني العشرين، أصابتني منعرجات الطريق، وتراجع الأشجار السريع، وقرص الشمس المسافر مع الحافلة، وموت أبي المفاجئ، وأحاسيسي المخدرة ببريق الإرث الذي آل إلي، ببداية دوار.
الحافلة مليئة بالمسافرين. فقط، المقعد الذي على يساري ظل خاليا. أنظر إلى ساعتي: الثانية عشرة، تأخرت في الوصول.
أصابتني منعرجات الطريق، وتراجع الأشجار السريع، وقرص الشمس المسافر مع الحافلة، وموت ابني المفاجئ وأحاسيسي المخدرة بالوحدة المتوقعة التي سأعيشها بعد السابعة والخمسين من عمري، ببداية دوار.
الحافلة مليئة بالمسافرين. فقط، المقعد الذي على يميني ظل خاليا. أنظر إلى ساعتي: الثانية عشرة، تأخرت في الوصول.
على مقعدي بالحافلة ظننت أن سفري هذا مجرد حلم. لا أحد يجادل في أن عاملا بسيطا يكد طوال النهار، ثم يلوذ مساء إلى أحد المقاهي حيث ينغمس في كتابة قصص عجائبية، لا بد أن يظن بعد حصوله على ضيعة وفيلات ومعامل، أن هذا التبخر السريع لحياته القاسية هو مجرد قصة. قادني هذا الظن إلى ظن مهلوس، ظننتني، وأنا في الحافلة، أنني في الحقيقة ما زلت جالسا على كرسي المعتاد بالمقهى أتخيلني جالسا على كرسي بالمقهى أتخيلني مسافرا في حافلة أتخيلني على كرسي المعتاد أتخيلني في حافلة أتخيلني… وهكذا إلى ما لانهاية على نحو يثير الدوار…
على مقعدي بالحافلة ظننت أن سفري هذا مجرد حلم. لا أحد يجادل في أن ثريا مثلي يقضي النهار بمكتبه، ثم يلوذ مساء إلى أحدمقاهيه حيث ينغمس في إحصاء أملاكه، وعد أرقام معاملاته، لا بد أن يظن بعد وفاة ابنه الوحيد وسفره في حافلة بعد تعطل سيارته في الطريق، أن هذا التبخر السريع لحياته الرائعة هو مجرد حلم. قادني هذا الظن إلى ظن مهلوس، ظننتني، وأنا في الحافلة، أنني في الحقيقة ما زلت جالسا في مكتبي أتخيلني مسافرا في حافلة أتخيلني جالسا في مكتبي أتخيلني في حافلة أتخيلني … وهكذا إلى ما لا نهاية على نحو يثير الدوار…
أدخلني الدوار وتراجع الأشجار السريع، أنا الذي ينقصني الكثير من النوم، في شبه غيبوبة… رأيتني، كما يليق بمن ينام على كراسي المقاهي، نائما على سرير مخملي أحلم نفسي نائما في حافلة أحلم فيها بنفسي أنام في منزل يشبه القصور أحلم هناك بأني نائم في حافلة أحلم… وهكذا حلم في حلم وكأن الوجود بكامله ليس إلا حلما
أدخلني الدوار وتراجع الأشجار السريع، أنا الذي لديه فائض من النوم في حالة شرود، في حلم يقظة، وفي هذا الحلم رأيتني كما يليق بمن مل النوم في الأسرة المخملية، نائما على كرسي بمقهى أحلم بنفسي نائما في حافلة أحلم فيها بنفسي نائما على كرسي بمقهى أحلم هناك بأني نائم في حافلة أحلم… وهكذا حلم في حلم إلى ما لانهاية وكأن الوجود بكامله ليس إلا حلما.
تجنبا للدوار غصت بعيني في زرقة السماء اللامتناهية. زرقة السماء أخذت تذوب في زرقة أخرى؛ في زرقة تتلألأ تحت مياه مسبح الضيعة، زرقة تنتهي حيث يبدأ لون عشب أخضر محاط بأرضية رخامية. على امتداد لون الرخام المزركش ينساب بصر ذهني، يلتف، يصعد درجات البيت الثلاث، يجتاز المدخل، يندفع رأسا إلى غرفة أبي الحميمة، الغرفة التي كان يطل من نافذتها على أراضيه ومراعيه وأملاكه… أملاكي.
تجنبا للدوار غصت بعيني في زرقة السماء اللامتناهية. زرقة السماء أخذت تذوب في زرقة أخرى؛ في زرقة الأقلام المحبوبة التي كان ابني يفضل لونها أثناء الكتابة، زرقة تتلألأ فوق بياض الأوراق، زرقة تنتهي حيث يبدأ اللون الأسود للحروف المطبوعة التي سافر ابني من خلالها إلى الكثير من العوالم والأزمنة. يختلط في ذهني الأسود بالأزرق، بالأبيض، وينبثق منهم لون أتمنى أن أتنازل عن كل ما أملك لأملكه.
أعادني إلى واقعي شخير قوي يصدر عن أحد الركاب، شخير قوي ومزعج؛ حقيقته لا تقبل الدحض، حقيقته أقوى من أن تتبلبل بوساوسي. لم يكن صاحب هذا الشخير وحدة النائم، بل كل الركاب تقريبا … فكرت أن من يسافر على مثل هذه الحافلة ليسوا أناسا فقط، بل أضمومة من الأحلام، من الأمكنة، من المصائر المتعددة والمختلفة… آه لو استطعت التسلل إلى هذه الأحلام…
أنظر إلى ساعتي، الرابعة زوالا، وصلت متأخرا بساعات. أنزلتني الحافلة عند مدخل درب يتجه مباشرة إلى الضيعة. دون انتظار أخذت أسير بين صفين من الصبار. بدا لي المنظر جميلا، مألوفا، كما تركته منذ سنين. بخطى حثيثة أسير، وكأن للموت سحرا يجذبني إليه.
أنظر إلى ساعتي، الرابعة زوالا، وصلت متأخرا بساعات. أنزلتني الحافلة عند مدخل درب يتجه رأسا إلى الضيعة. ببطء أخذت أسير بين صفين من الصبار. بدا لي المنظر حزينا، مختلفا عما تركته عليه بالأمس. بخطى بطيئة أسير، وكأن للموت قوة معاكسة تدفعني عنه.
ابتدأت صفوف المعزين أو المهنئين حيث انتهت صفوف الأشجار أسير بين الصفوف كما يليق بأغنى رجل في القرية، رافعا رأسي، دون أدنى تظاهر بالحزن. في عيون الرجال أرى الحسد والاحترام، ومن خلف الصفوف يتصاعد صوت نواح الباكيات المأجورات. عندما اجتزت آخر رجل فيالصفوف، سلمني وكيل أعمال والدي الوثائق التي أصبحت بموجبها مالك أملاكه. هجست لنفسي: “ليحزن كل يتامى العالم أما أنا فلا.”.
ابتدأت صفوف المعزين حيث انتهت صفوف الأشجار. أسير بين الصفوف مثقلا بالأحزان كأفقر رجل في القرية، مطأطئا رأسي، دون أدنى شعور بالعزاء. في عيون الرجال أرى التشفي مجسدا، ومن خلف الصفوف يتصاعد صوت نواح الباكيات المأجورات. عندما اجتزت آخر رجل في الصفوف، سلمني وكيل أعمالي رزنامة من الكتب والأوراق قائلا: “وجدناها معه حيث مات في أحد مقاهي الدار البيضاء”. سلمني الكتب والأوراق التي لفرط ولع ابني بها طردته من الضيعة ومن باقي أملاكي. الكتب والأوراق التي تختزل كل عالمه. أجهشت بالبكاء ثم هجست لنفسي: “ليفرح كل أغنياء العالم أما أنا فلا.”
في طريقي إلى منزل الضيعة حيث مددوا جثمان والدي، اعترضني كلبه المفضل. في عينيه رأيت حزنا لامتناهيا، في عيني رأى بؤبؤين من رخام.
في طريقي إلى منزل الضيعة حيث مددوا جثمان ابني، اعترضني كلبي المفضل. في عينيه رأيت حزنا لامتناهيا، في عيني رأى نهرا من الدموع. أشفق علي وأشفقت عليه. تماهينا في الإشفاق حتى رأيت نفسي كلبا يرى نفسه إنسانا يرى نفسه كلبا يرى نفسه… وهكذا، دورة لامتناهية من الإشفاق والتعاطف والتآخي…
أرتقي الدرجات الرخامية الثلاث، أفتح بابا فخما من خشب الأرز، يستقبل قدمي بساط تركي ذو مربعات متباينة الألوان. أفكر وأنا أمشي على تلك الرقعة الشطرنجية بأن خطواتي المستقبلية يجب أن تكون مدروسة كنقلة لاعب محترف ماهر. أدخل غرفة نوم أبي حيث مددوا جثمانه. أشعر بأني أدخل أشد العوالم غموضا، حيث اللغز الذي لا حل له.
أرتقي الدرجات الرخامية الثلاث، أدفع الباب، أقصد غرفة نوم ابني حيث مددوا جثمانه. أشعر بغربتي عن نفسي وبرغبة في الذهاب إلى حيث ابني ذاهب.
جنب السرير، أقف عند رأسه. أراه مسجى على ظهره يغطيه إزار حتى العنق. ينام هادئا في شبه اطمئنان، وكأن هذا الموت هو الشيء الوحيد المعقول الذي اقترفه في حياته. أنحني، أهجس له:”جاء دوري لأطردك من الضيعة أيها اللعين”. ألتفت نحو الأرض أرى بعضا من الكتب التي خلفتها بالضيعة منذ سنين. أنظر إلى يدي أراها تقبض على وثائق الإرث.
جنب السرير، أقف عند رأسه. أراه مسجى على ظهره يغطيه إزار حتى العنق. يبدو متشنجا، ربما لأن الموت باغته مبكرا. أقبل رأسه، أنظر إلى الأرض، أرى نسخة عديدة من أوراق أملاكي. أنظر إلى يدي أراها تقبض على رزنامة من كتبه.
أعادتني الكتب المرمية عند رأس والدي إلى صوابي. يتغلب سحرها على سحر وثائق الإرث. أرمي هذه الوثائق، وأرتمي لأحضن كتبي. بخرت الكتب فرحي بالميراث ودوار السفر والتعب.
جحظت عيناي كمن يخشى أن يعود إلى النوم بعد حلم مخيف، أحسست بيقظة رهيبة، بصفاء شامل يزيل خوذة هلامية عن رأسي.
أعادتني وثائق أملاكي المرمية عند رأس ابني إلى صوابي. يتغلب سحرها على سحر الكتب. أرمي هذه الكتب، وأرتمي لأحضن أوراقي. بخرت وثائق الأملاك حزني على ابني ودوار السفر والتعب.
جحظت عيناي كمن يخشى أن يعود إلى النوم بعد حلم مخيف، أحسست بيقظة رهيبة، بصفاء شامل يزيل خوذة هلامية عن رأسي.
أحسست بيقظة، بيقظة في يقظة، ولا شيء آخر غير اليقظة، وكأنما أصابت يقظتي الرهيبة المتوفى بعدوى غريبة جعلت صفرة وجهه الشاحب تتبخر، وحمرته تعود، وقلبه ينبض، ودماءه تجري من جديد، وعينيه تنفتحان.
مذهولا، يتراجع إلى الخلف. يدوس بساطا تركيا ذا مربعات متباينة الألوان. ينزل درجات رخامية ثلاثا. يزيح عينيه عن الكلب، ويزيح الكلب عينيه عنه.
يسلم كتبا ووثائق أملاك إلى وكيل أعمال.
تبتلع الباكيات المأجورات نواحهن. وحيث تنتهي صفوف الرجال، تبدأ صفوف الأشجار. بين صفين من نبات الصبار، يمر متراجعا.
ينظر إلى الساعة الرابعة زوالا.
من أعلى الهضبة، تتراجع، إلى الخلف، حافلة لم تقو على مزيد من الصعود
تتوقف عند مدخل درب يؤدي مباشرة إلى ضيعة. بذهول يصعد الحافلة موليا ظهره تجاه الداخل. تنزلق الحافلة متراجعة نحو الخلف، نحو أسفل المنحدر.
ورغم سن السابعة والثلاثين، أصابته منعرجات الطريق، وتقدم الأشجار السريع، وقرص الشمس المتراجع مع الحافلة، وأحاسيسه المخدرة ببداية دوار…
الحافلة مليئة بالمسافرين. فقط، هو الوحيد الذي يحتل مقعدين، يتبادل الجلوس عليهما كلما ضجر من أحدهما.
ينظر إلى ساعته، الثانية عشرة، الرقاص مستمر في الدوران من اليمين إلى اليسار…
أنزلته الحافلة عند باب مقهى، ثم انعطفت متراجعة باتجاه باب المحطة.
يتراجع باتجاه عمق المقهى.
جمرة سيجارته تبتعد عن مصفاتها، ثم تنطفئ عند رأس السيجارة. يدسها في العلبة ثم يعيدها إلى جيبه.
تتقافز قطع السكر من فناجين القهوة وتطير باتجاه الصحون الصغيرة، وهناك تحط.
يتراجع نحو كرسيه المعتاد ويجلس، يجلس حيث أجلس أنا الآن، ويمحو بقلمه من اليسار إلى اليمين، ومن الأسفل إلى الأعلى ما كتبته، أنا، بلغة الضاد، من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل، من حروف وكلمات، من جمل وفقرات، منها تشكل ذلك الموت، تلك الحياة الجديدة، منها نسجت هذه القصة.

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار