
سعيد رضواني:دراسة نقدية لقصة “لقاء مع بورخيس”
بقلم : محمد الطايع.

في قلب أدب، ومخيلة الكاتب سعيد رضواني، يتحقق اللقاء بينه وبين الأديب خورخي لويس بورخيس، حيث يستدعي صاحب المرايا وقلعة المتاهات المغربي،
سلفه ونظيره صاحب المرايا والمتاهات الأرجنتيني، حتى لا نعلم أي الرجلين استضاف الآخر في عالمه، وأيهما رأى نفسه في مرآة صاحبه، فنتساءل إن كان كل واحد منهما قد رأى الآخر من خلال مرآته. ومثلما حاول بورخيس، إلهام قراء الإسبانية،
بسحر الأدب والفكر العربي، ها هوذا سعيد رضواني، يحاول كما فعل آخرون نقدا وترجمة إلهام قراء العربية سردا، بسحر أدب بورخيس، وكأن لعبة تبادل المعنى لا نهائية، فترى الواحد منا يردد وهو يفرغ من القراءة، أي بضاعة ردت إلينا؟! بعدما تحقق وعلى مر العصور، ذلك التأثر المضاعف، بين العربية وعلومها وآدابها وبين علماء وأدباء الغرب.
ولكي نفصل في هذا اللبس الظاهر، والذي لا يشكل عقبة فهم ضمنيا، وجب علينا محاولة الفصل بين الرجلين قليلا، لنفك هذا الاشتباك، فنبدأ بتحديد علاقة كل واحد منهما بالمرآة. علاقة بورخيس بالمرآة علاقة مشوبة بالرعب، وعلاقة سعيد بالمرآة علاقة نهم،
بورخيس يرى في المرآة مضاعفة رهيبة للكائن البشري، وسعيد يرى المرآة وسيلة سفر كوني في عمق هذا الكائن. من هنا نرى أننا لسنا أمام حالة تشابه مطلق، ولا تضاد عنيف، بل هو نوع من التكامل السحري الذي لن نجده طبعا إلا في عوالم الأدب.
خلال مجمل قراءتي لأدب الكاتب المغربي، سعيد رضواني، لم أكن في حاجة لكثير من موهبة التنقيب، عن خصوصيات إبداعه، وذاك أنه قد سبقني للحديث عنه عدد محترم، من السادة النقاد والأدباء، كما أنه وبمباركة شخصية منه،
كان التوافق قطعيا، بشأن اشتغاله في أكثر نصوصه المنشورة، على ثيمة المرآة والتناظر، حتى أنه لم يبقها سرا يكتشفه قراؤه، فقد كانت – مرايا – عنوانا لواحدة من أكثر مجموعاته القصصية شهرة، وكذلك لما فكر في تحقيق نقلة من أدب يركز خلاله على شكل النص، إلى أدب يتماهى مع الفكر،
أنتج نصا قصصيا بعنوان : “لعبة التناظر”، ولا شك أن ثيمة التناظر نوع آخر من المحاكاة لفعل المرآة، مع تطور معلوم، حيث أن الوقوف أمام المرآة يجسد حالة تأمل، بينما رصد ظاهرة التناظر يحيل على الحركة واستقلالية الكائن السردي. وهكذا سوف نصادف من بداية نص لقاء مع بورخيس، إلى نهايته، جملا تناظرية طبعت أسلوب سعيد رضواني السردي كقوله : لا أحد غيري رآه، لا أحد غيره رآني، لا أحد سمعه، ولا أحد سمعني. وهي ليست جملا للزينة واستعراض القدرات الأسلوبية، بل سيظهر أنها ركائز أساسية، لفهم ظروف النص وحبكته، حيث يتأكد القارئ على لسان السارد أن الشكل هو المضمون، ثم يرى المزيد من التناظر،
في حالتي دفء وسخونة كفي سعيد وبورخيس، وتناظرا في فكرتي منفعة الأدب والعلم، هذا والقصة كلها مشهد تناظر بين سعيد رضواني ونظيره لويس بورخيس. إلا أن هذا التناظر جاء في هذا النص واعيا بنفسه، وقد تخللت القصة فقرات أقرب إلى النقد الذاتي، والنقد كما يقال عراب الأدب، فلا شك أن في كل كاتب وشاعر ناقد داخلي، وإلا ما وافقت القصائد والمسرودات شروط الجودة المطلوبة،
وقبل أن نفصل في حضور السارد الناقد، نكون ملزمين بالإشارة إلى أن قصة “لقاء مع بورخيس” تدخل تحت مصنف أدب الأفكار، والتفكير. فما مبرر هذا التحول يا ترى؟
في هذا النص القصصي، من الجيد أن ننتبه إلى هذه الجمل التي سوف نصادفها خلال النص، والتي ستحيلنا على سؤال، من شأن الإجابة عنه أن تزيح بعض اللبس عن كثير مما يعيشه البشر عامة،
والكتاب خاصة، من تقلبات بينهم وبين أنفسهم. حيث نقرأ للكاتب قوله : تأملت سفينة تنحدر ثم تختفي وراء الأفق، ففكرت في السفر ليس في المكان بل في الزمن. وفي نهاية نفس الفقرة، نقرأ قوله : أسندت ساعدي إلى أعلى الحاجز أتأمل الأمواج والطيور والسفن والأفق، وبعد لحظات بدلت التأمل بالتفكير.
وفي جملة لاحقة، سوف نقرأ حديثا للكاتب عن صاحبه : تأملت ما قاله توا، وبعد ذلك فكرت في جملته السابقة.
نلاحظ في الأمثلة المذكورة، أن فعل التأمل سابق دائما لفعل التفكير، وكأن التأمل مدخل للتفكير، فالتأمل أشبه بعملية حشد وحصاد، والتفكير أشبه بعملية غربلة.
التأمل روحي وجداني متسم بالدهشة والغوص بكل الجوارح في مشهد ما، لكنه صامت، غير مؤطر بخلاصات ولا قواعد لغوية، ولا تصاعد درامي، إنه بذلك يجسد حالة من الإحساس الذاتي والذوبان في شكل وحال المتأمل فيه. أما التفكير فهو فعل يتسم بالوعي، يعتمد اللغة، ويستند للنضج والموضوعية.
من خلال هذه المتواليات نكتشف، أن كاتبنا من نوع المبدعين الذين يمارسون التأمل، زمنا ما قبل التحول للكتابة، فالنص في مراحل تطوره، عند كاتبنا سعيد يمر عبر مرحلتين، الأولى مرحلة التأمل، والتي شبهتها أعلاه بالحصاد والحشد العاطفي، ومرحلة التدوين، أقول التدوين، لأن التأمل أحيانا يتخذ لدى بعض المبدعين شكل الكتابة الذهنية.
وطبعا ستكون تلك الكتابة فوضوية غير مؤطرة بفقرات وجمل مستقلة، حيث تتداعى الرؤى والانفعالات بشكل أقرب للتلقائية، بينما تعتمد الكتابة تدوينا على قواعد الخطاب، واللغة والدهاء الفني. حيث تنعت العملية حينذاك بالاحترافية. ولولا تزامن فكرة التأمل والتفكير عند بعض الكتاب، والشعراء خاصة لحظة التدوين،
لم أكن لأشير لعلاقة التأمل والتفكير بأطوار الإبداع، فثمة من يتأمل لحظة الكتابة، فينقل تأملاته مباشرة إلى الورق، وقد يمارس عملية الغربلة في نفس الوقت، وقد لا يتوفق فيها إلا نادرا. هذه الخاصية التي أشرت إليها، والتي تكشف عن نفسها في نص لقاء مع بورخيس، للكاتب سعيد رضواني، أعتبرها الآن بمثابة توطئة للدخول إلى متن القصة، والتحدث عن مرحلة فارقة في أدب كاتبنا، حتى لكأن هذا النص جاء تتويجا لمساره الإبداعي، وهو أيضا أشبه بخلاصة، أ
و حفلة آخر السنة التي تقام قبل الحصول على عطلة، بيد انه لا راحة للمبدعين، وحتى عندما يشعر الكاتب سعيد رضواني بما يشبه الإكتفاء، يقول : شعرت بإشباع من التأمل والتفكير.
لا بد أن نفكر أن الشبع دليل رضا، وهو أفضل من النقص أو التخمة، هو إشباع بميزة الوسطية. لأن هذا الفصل من التأمل والتفكير، لن يكون الأخير قطعا. ولأنه لا راحة لكاتب، فالكاتب واحد من ثلاثة، كاتب يعاقر الحبر والورق، وكاتب يتأمل ويفكر فيما سيكتب، وكاتب يأخذ قسطه من النوم، وفي النوم أيضا سوف يمارس فعل الكاتبة، وذلك عبر الحلم، إلا أنه حلم غير متحكم فيه، أما الأدب،
فهو كما قال خورخي لويس بورخيس : الأدب حلم متحكم فيه. وذلك ما قام به سعيد رضواني، فالنص أشبه بحلم، لكن متحكم فيه، من طرف الكاتب. بل وقد تجاوز صفة السارد، منتقلا إلى صفة السارد الناقد.
في نص لقاء مع بورخيس، يظهر الجانب النقدي لسعيد رضواني واضحا، من خلال مقارنته الحاسمة، بين متاهات كافكا ومتاهات بورخيس، وتحدثه عن نفسه، حيث يقول : أنا أيضا حاولت الإشتغال على المرايا والمتاهات،
لكنني قطعا لم أشتغل على المرآة والمتاهات بالشكل الذي اشتغلت أنت عليها – يقول هذا مخاطبا صديقه بورخيس – اشتغلت أنت على المرايا كأدوات وثيمات، بينما حاولت أنا أن أجعل السرد نفسه مرآويا. وفي فقرة لاحقة سوف ينتقد سعيد، كتاب قصص الخيال العلمي السطحيين، الذين أهانوا – حسب رأيه –
فكرة السفر عبر الزمن، مشيرا إلى أن الأدب إن لم يكن جيدا، يسقط في مغبة إهانة العلم، مثلما يشير قبل ذلك، إلى العلم الذي أهان القمر، بحذاء ” نيل أمسترونغ “،
وتلك إشارة إلى طغيان العلم على الأدب، خاصة الشعر، بعدما كان الشعراء يتغنون بالقمر، جاء العلم ليحوله إلى حقل تجارب. ولأننا بصدد القراءة لكاتب بالمقام الأول، سوف نشعر أن سعيد رضواني، لم يلجأ للنقد، إلا ليكون حكما فصلا بين ما ذهب إليه الأدباء وما جاء به أو افترضه العلماء، مؤكدا وهو في قلب النص، أن من واجب الأدب أن يرد اعتبار هيبته، من خلال كتابة نصوص جديدة،
تتوافق مع مستجدات العلم، مشيرا إلى أن ذروة طموح الأدباء، هي نفسها ذروة طموح العلماء، وكمثال على ذلك، فكرة السفر عبر الزمن، مشيرا أن التلاعب بالزمن، والسفر فيه سردا، هو توظيف ذكي، للإرث الذي خلفه لنا علم الفيزياء النظرية.
لنفهم أن القيمة تكمن في التكامل بين العلم والأدب وليس في تنافرهما. ولعل هذا الموضوع خاصة، كان هو المهيمن على حوار سعيد وبورخيس، مع جمل ذات ايقاع فني بالغ العذوبة جمل مستنبطة – بدهاء كاتب بارع – من خلاصة أدب بورخيس، وأدب سعيد رضواني، وغيرهما من الأدباء الذين شغفوا باندماج الأدب والعلم، تلك الجمل الفريدة،
ذات الإيحاء الفاتن، الأولى تقول : لعل كتب الأدب هي آخر ما ينفعنا في الأدب، ولعل كتب العلم هي أيضا آخر ما ينفعنا في العلم، أي أن العلم لا يحقق مبتغاه الأسمى، مالم يبنى على تجربة العالِم الذاتية، وكذلك الأدب.
من أجل إبراز القيمة الفنية شكلا لهذا النص، وجب أن نشير، أن في هذه القصة تحديدا، لا يمكننا فصل سعيد رضواني عن شخص السارد، فمما لا شك فيه ان الكاتب يتحدث عن نفسه. وفي النص الكثير مما يدل على ذلك، حيث لا يتورع سعيد عن التعريف بأدبه وطرق فهمه للسرد والكتابة عموما،
في مشاهد لن تغفل عنها عين القارئ. وفي خلاصة نشير أن الأحكام في قصة لقاء مع بورخيس، نصفها خالص لسعيد رضواني، ونصفها مستلهم من أدب وفكر وسلوك وفلسفة بورخيس، مما يعطي للقصة بعدا خاصا، يتسم بالجدية والمصداقية والعمق، بل وأرى أن سعيد رضواني قد بلغ من بورخيس مبلغا فريدا، وهذا قد لُخص تماما في تلك الجملة التي ذكرناها سابقا، وقد جاءت على لسان بورخيس حيث يقول : ( لعل كتب الأدب هي آخر ما ينفعنا في كتابة الأدب ) ففي تأويل آخر يصب في منحى الأدب بشكل مباشر، نذكر أن بورخيس عرف نفسه مرارا بأنه قارئ أكثر من كونه كاتبا، مرددا: فليفخر الآخرون بما كتبوا،
أما أنا فأفخر بما قرأت. من هنا نستنتج دقة ما ذهب إليه سعيد رضواني، في قوله على لسان بورخيس: أن الكتب هي آخر ما ينفعنا في كتابة الأدب، فكأنك حين تقرأ تقرأ لنفسك، وحين تكتب تكتب للناس، فتفصل بين القراءة والكتابة، فأنت تقرأ لكي تعرف العالم وتفهمه، وتكتب لكي يقرأك العالم ويفهمك، تشبه هذه الفكرة إلى حد بعيد، نصح الشاعر أبي نواس لأحدهم بقوله : احفظ ألف بيت ثم انسها. لكي تكون كاتبا جيدا، اقرأ كثيرا، لكن عند الكتابة لن تكون إلا أنت.
نعم لن تكون إلا أنت، إن كنت مبدعا حقيقيا أصيلا ومجددا في الآن نفسه، ولنقل إن قصة لقاء مع بورخيس، جاءت لتسند فكرة فصل ذات الكاتب، عن مقروءاته لحظة الكتابة، وإن كان ثمة ما يشبه التماهي معها، فهو لن يعدو كونه تناصا وحوارا ومساءلة، بل سنخلص بعد القراءة لقاعدة مفادها : لا تخبرني أنني أشبه غيري،
إن لم تشك ولو قليلا أنني قادر على تجاوزه. أما كيف تحقق ذلك، ففي النص نفسه تكمن الإجابة، ولا غضاضة أن نسهم في هذه المقالة، بالكشف عن تداعيات هذه الفكرة، والتي هي أيضا جوهر القصة وفيها تتعالق الحبكة الدرامية بالطرح الفكري.
اليوم، في زحمة الكتابة، يفرض نفسه سؤال يطفو على واجهة المشهد الإبداعي: ماذا سنضيف للأدب؟ بمجرد طرحنا هذا السؤال، يتحقق بيننا اتفاق غير رسمي، أن الكثير من موضوعات الشعر والسرد، هي اليوم متجاوزة. ولذلك كان حريا بالمبدعين الجادين، أن ينتبهوا لمسألة الإضافة، وأن يتخطوا غلبة تكرار تجارب سابقة. بينما قد يبدو هذا الطرح ملتبسا، على الذين يقرؤون النصوص الإبداعية
، من خلال مضامينها فقط، أو حتى شكلها البصري، من طينة أولئك الذين لا يجدون ما يمتدحون به شاعرا أو كاتبا معاصرا غير قول أحدهم : كأني أقرأ للمتنبي، أو كأني أقرأ لنجيب محفوظ، أو كأني أقرأ للجاحظ. هؤلاء تحديدا، ومن قصر فهمهم سوف يقفون موقف الضد، إن هم لاحقوا فكرة الإضافة،
من كل أديب يتقاطع مع أديب قبله، ثم يجعلونها ذريعة للعودة إلى ما كانوا فيه من ضلال وتضليل، غافلين عن حقيقة الإبداع، باعتباره لا يأت من فراغ، وألا أحد قادر على البدأ من نقطة اللاشيء، وأن الأدب في عمومه قراءة فلسفية لا نهائية، لإرث الفكر والإبداع، ومن أجل فك هذه العقدة وجب التنبيه أن الإضافة، على مستوى الفكرة والخطاب، تبدو طرحا معقولا، فقط بعد ضرورة التجديد على مستوى الشكل، وضرورة الارتقاء باللغة، والأسلوب الفني والأدبي.
في فقرة أظنها جوهرة العقد كما يقولون، سوف يسأل بورخيس سعيدا : ألا تخشى من المقارنات؟ ليجيبه سعيد أن لكل واحد منا عالمه المستقل. والظاهر أن سعيدا، لم يكن ليتمتع بهذه الجرأة، في مشاغبة كاتب كبير مثل لويس بورخيس،
لولا اتكاؤه على فعل القراءة، ومحاكاته لقصة الآخر لبورخيس، فأنى له أن يجزع من مثل هذا التلاقي والتناظر، لولا أنه يعرف جيدا، أنه يخاطب أديبا سبق له أن التقى بنفسه؟ ثم يفصح عن هذا إخبار بورخيس الكهل سعيدا،
أنه ذات بوم التقى رجلا في مثل سنه، حين كان هو في مثل سن سعيد، فنفهم أن ذلك الرجل الذي التقاه بورخيس الشاب، لم يكن سوى بورخيس المسن، ثم نفهم أن السارد سعيد، بذكره لهذا الخبر على لسان بورخيس، قد زاحم مكان بورخيس الشاب، بعدما حصر بورخيس أيضا في سن الشباب، متعمدا اخفاء هوية الرجل المسن، ليكون الشاب بورخيس هو نفسه سعيد الكاتب، ثم يتوجها معا بعد ذلك، للحصول على حكمة الرجل المسن، الذي هو بورخيس نفسه. ولأن اللقاء هنا بين شبيهين وليس الشخص ذاته، في أزمنة مختلفة، فقد كان جل الحوار موضوعيا أكثر من كونه ذاتيا. كما يؤكد نضج هذه العلاقة، رؤية سعيد الكاتب،
أن لقاء كهذا لن يضفي عليه صفة الجدية، سوى التحدث في أمور العلم والأدب. وفي جواب رد سعيد على سؤال بورخيس : ألا تخشى من المقارنات؟ ما يؤكد فكرة التشابه بينهما، حيث يقول الرضواني لصاحبه : إذا أصبحت أنا أنت، فسأكون مكانك الآن ازاء شخص آخر، وقد يكون هذا الشخص هو أنت.
سوف نرى سعيدا وهو يصرح، كنوع من النقد المكتوب سردا، إعلانه أن الخصوصية التامة أمر غير ممكن، فلابد من وجود أناس متشابهين، مرجحا أن البشر، مرايا تنعكس على بعضها البعض، ليكتشف بورخيس حينها، أنه غفل عن فكرة الحيوات المتوازية التي انتبه لها سعيد، هو الذي كتب كثيرا عن المصائر المتقاطعة والمتداخلة، وهنا استطاع سعيد بذكاء، تأكيد قيمة أدبه الخاص، وما أضافه للمشهد الإبداعي، فأكد أنه ليس مجرد مقلد، حينها فاز بكامل إعجاب بورخيس، الذي قال له صراحة : أتمنى حقا لو كنت أنا هو أنت. ثم أضاف : وربما نشكل كيانا واحدا، غير مرئي مختلف عني وعنك. وحسب رأيي الشخصي، ستكون هذه القصة تحديدا، مرجعا هاما، لمن يريد أن يفهم أدب سعيد رضواني، فمن زاوية ضيقة، لابد أن نعترف أنه مثل نفسه بشكل جيد، مدافعا عن وجهات نظره في الإبداع، إن لم نقل أنصفها.
ثم ها نحن ذا نصل إلى تحديد بعض خصوصيات النص، ومعالمه الفنية الأساسية، فنتساءل عن زمن ومكان تحقق هذا اللقاء الأدبي المعرفي والفكري، بين كاتبنا سعيد رضواني، والأديب لويس بورخيس، فنلاحظ أن الوقائع تدور في الزمن الحاضر، وفي مدينة مغربية شاطئية، بينما لا يخفى على قارئ مغربي محتمل، واع بالقيمة الكونية، لأدب الكاتب الكبير المدهش والمجدد، خورخي لويس بورخيس، والذي عرف بانفتاحه على الكثير من ثقافات العالم، وشغفه بالثقافة العربية بشكل غير مسبوق في أدب أمريكا اللاتينية. أنه قد زار المغرب وتحديدا مدينة مراكش عام 1984. وأنه كان يومها فاقدا للبصر تماما، بينما بورخيس قصتنا لازال يتمتع بنعمة الإبصار، لولا أنها آخذة في التدهور، ما نفهمه من هذه المعطيات القصصية، هي رغبة سعيد رضواني، النأي بنفسه وبصاحبه عن أي إسقاط واقعي يماثل هذا التلاقي، أولا لأن وقت زيارة بورخيس للمغرب كان سعيد لايزال طفلا صغيرا، ثانيا لأن بورخيس جاء لحضور مؤتمر الشعر، بينما تم استدعاؤه هنا من طرف سعيد، لحضور لقاء قمة بين هرمين من أهرام السرد، بل وحتى نحن داخل هذه الأرضية القصصية الخيالية، سوف نرى أن كلا المبدعين، يشعران بالضجر من الأماكن المزدحمة، ونعلم أنهما يميلان للوحدة والخلوة مع الذات. وفي ذلك أيضا ما يوافق زعم الكاتب، ألا أحد غيرهما، رآهما أو سمعهما. وحتى لا يكون هذا اللقاء، مجرد سيناريو مكتوب سلفا، سيناريو قد لا يقبل العملاق بورخيس بالخضوع لأطواره، فلابد أن سعيدا الكاتب اللبق، قد تنبه لكل هذا، فأضفى على اللقاء مزيجا سحريا، من الدهشة والاكتشاف، وسوف يبدو ذلك جليا،
عند اخباره لبورخيس أن شخصا ما امتدحه، وأن آخر عارضه، ليكون جواب بورخيس على كلا الحالتين : شكرا لأنه تذكرني. مما أدهش سعيدا أمام تصالح بورخيس مع المتناقضات، معلنا أنه أمر لطالما تمنى تحقيقه، مثلما يتمنى لو كان هو نفسه. مثل هذا التصالح نجده في قصة الآخر لخورخي لوريس بورخيس، حيث أراحه أن بورخيس الشاب، لم يسأله عن فشل تلك الكتب التي أخبره أنه كتبها، أو نجاحها، وهذا يؤكد ما أشرت إليه أعلاه،
أن الكاتب سعيد رضواني، يستنبط بكل معقولية أحكامه السردية بخصوص بورخيس من إرثه الثقافي دون مزايدة عليه.
في فقرة شديدة النباهة، سوف نعلم أيضا عن الكاتب سعيد رضواني، أن الأديب لويس بورخيس، حياه باللغة الإسبانية، ثم تحدث إليه باللغة العربية، أعلم أن عددا كبيرا من المهتمين بالأديب العالمي بورخيس، قد تناقلوا خبر تعلمه اللغة العربية، لكنني من خلال ما قرأت لم أجد ميلا للزعم بأنه قد بلغ منها مبلغ الإتقان، أولا لكبر سنه، ثانيا لأنه لما خطر له ذلك كان كفيفا، وإن لم تكن العلة الأخيرة مانعا حقيقيا، مادام ثلة عظماء الأدب، كانوا غير مبصرين. وسواء أجاد بورخيس على الأقل سماع العربية وفهمها، إن لم نطمح في أكثر من ذلك، أو لم يفعل. فحسبنا أن العربية كانت ملهمته الأولى، من خلال ألف ليلة وليلة، وأيضا ولعه بالثقافة والأدب والفلسفة العربية. لأنه في حال توفر المحبة والتقدير، تنتفي حواجز اختلاف الثقافات، ولذلك أقول : غالبا بداخلنا، نحن البشر، كل العالم يتكلم لغتنا، حتى الجماد والحيوان، والأدب خيمة مشرعة في وجه كل مسافر من الذات نحو الآخر. كما يشرفنا أن نحظى بنص ذو قيمة عالية مثل نص : لقاء مع بورخيس لكاتبنا سعيد رضواني، إيمانا منا أيضا أن لغتنا العربية، كما وصفها شاعرنا حافظ ابراهيم، متحدثا بلسانها المبين : ( أنا البحر في أحشائه الدر كامن ) معتزين أيضا بقوله : ( وسعت كتاب الله لفظا وغاية ) مشيرين بعد ذلك، إلى القرآن الكريم، وكيف أخضع كل لغات الأمم السابقة، لبيانه الإعجازي فنقطت من خلال متنه كل الألسن كما لو كان أصل منطوقها عربيا، وكذلك نوجد الذريعة لكاتبنا سعيد، ونحن نتلو أسطر قصته لقاء مع بورخيس، لا نملك إلا أن نثمن هذه التجربة السردية البديعة.
وعن قصة لقاء مع بورخيس، نقول أيضا، أن الكاتب سعيد رضواني، وكما نأى بوقائع سرديته، عن التصادم مع إشكالية تشابه هذا التلاقي مع أي خط واقعي مفترض، تجنب الكاتب أيضا، مع التذكير أننا بصدد قصة قصيرة وليست رواية، أي تلميح لاخنلاف الأديان والمفاهيم الوجودية المؤطرة للقناعات الخاصة ذات الصبغة المحلية، اشارة لهوية الكاتبين ومعتقداتهما. مادام الأدب من منظوره الانساني فرصة كل شعوب وثقافات العالم، كي تتحاور وتتلاقح فيما بينها بعيدا عن الصراعات القارية والإيديولوجية، ليكون هذا التلاقي بحق، حاملا لرسالة المحبة والسلام والحوار الحضاري. وقد أشرت لهذا لأن العديد من حوارات بورخيس، كانت تدور حول المفاهيم الإيمانية، والتي أبان خلالها عن علاقة غير ثابتة مع مفهوم الرب. فأثناء زيارته للمغرب، كان تفاعله مع خصوصيات بلدنا وجدانيا، هو الذي لم يجزع كما صرح مرارا من فقده للبصر، بل اعتبر العمى وسيلة أفضل للمزيد من الغوص في عمق الوجود، حيث أخبرت عنه أمينة سره، زوجته ” ماريا كوداما ” واصفة مدى خشوعه عند سماعه صوت الآذان، وكيف سمى المسلمين بالمؤمنين، بينما نرى من خلال تتبع مساراته الفكرية، أن لويس بورخيس من جهة يشيد بفكرة التصوف، ويرى في الإيمان بالله مخلصا من تيه البحث عن الحقيقة، لكن القبول بوجوده يعني أيضا موت غاية التفكير، لأن الله مالك للحقيقة، بينما يصعب على بورخيس تصور الرب، خارج الزمن، مثلما ينفي إمكانية تواجده داخل الزمن نفسه. وكنوع من الحسم في مسألة المعرفة وعلاقتها بمعرفة الإله، وما يمكن أن ينتج عن إله وهب معرفته للبشر قال بورخيس: لو أن معنى الحياة قدم لنا، ربما لن نفهمه. هذه الخلاصة التي صرح بها، تتوافق ضمنيا مع كل ما جاء في نص قصة سعيد رضواني، لقاء مع بورخيس، والذي لا يركن لقناعات نهائية حاسمة، مهما كان الموضوع، حتى وإن تعلق الأمر بذاته، وما كتبه، تطابقا مع نهاية قصة خورخي لويس بورخيس” “بورخيس وأنا” : لا أدري أينا نحن الإثنين يكتب هذه الصفحة. بورخيس يرى في الشك نعمة، وسعيد رضواني يرى في بورخيس، الرجل العظيم المتواضع، الذي حقق فكرة التصالح مع المتناقضات، بورخيس الذي كان يخبر الصحفية ” أميليا باربلي” كلما ألقى عليه التحية أشخاص يعرفونه قائلا : لابد أنهم أخطأوني، قاصدين شخصا آخر. وبرى فيه سعيد وفي أمثاله، ذلك التكامل الوجودي، المجسد في فكرة اليانغ يونغ، فذاك بورخيس الذي فكر كثيرا في حياته بعد الموت، مرددا : أنا لا أفكر فيما كتبته، بل أفكر فيما سأكتبه، تشعر أنه يشتهي الكتابة بعد الموت إن أمكن، كان يرى في حال ما إذا كانت الحياة تنتهي فعلا بعد الموت، أن بإمكانه أن يعيش حياته في الكتب، يبدو هنا أن كاتبنا سعيد رضواني، يحاول أن يحقق له هذه الرغبة.
ترى هل كان ساردنا سعيد رضواني، المنتقل بين حالتي التأمل والتفكير، يعرف نهاية قصته؟ تلك التي تدور في مخيلته، في زمن خالص للكتابة، هل انتبه أنه بهذا النص السردي المميز، ذكرنا معشر البشر، أننا نعيش في المخيلة كما نعيش في الواقع؟ هل خطر له ذلك التناظر بين قول بورخيس متحدثا عن ابن رشد : في اللحظة التي أتوقف فيها عن الإيمان به، يختفي ابن رشد، وبين اختفاء بورخيس في نهاية قصتنا هذه؟ مع مفارقة مثيرة، يمكن أن نوجزها هكذا، على لسان سعيد : في اللحظة التي أشعر فيها بفهمي لبورخيس…! ترى ما الذي سيحدث؟ ليس في نص القصة جواب ميسر أو مبسط لمثل هذه الأسئلة، لكن ثمة مفاتيح، أختار منها على سبيل الإشادة والتوجيه جملة تقول : إن التباعد قد يكون نوعا من التقارب، وجملة أخرى تقول : ربما ما يجمعنا هو ما يفرقتنا.
في ختام مقالتي، أعتذر عن طولها المفروض، يبدو أن قصة لقاء مع بورخيس متاهة وإن كان عدد شخوصها اثنين فقط، فالظاهر أنهما لوحدهما عالمان لا ترهبهما اللانهائية، فكم يبدو مستحيلا أن تحتوي متاهة كاملة في مقالة. قصة كهذه تحتاج من أجل دراستها إلى كتاب، وليس مجرد نص قراءة ينتهي في جلسة واحدة، هذا ومن باب الكياسة أن نترك للقارئ مهمة اكتشاف روعتها بنفسه، فيكون من بين ذلك اكتشافه، وهو يطلع على القصة، أننا نبدو كمن لم يقل شيئا، أمام ما سوف يرى ويقرأ ويعيش من مفارقات عجيبة.