![](https://mawtany.com/wp-content/uploads/2025/02/FB_IMG_1738873862916.jpg)
ظلال الوحدة
محمود سعيدبرغش
(قصة إنسانية عن التضحية والندم والميراث العاطفي الذي يتركه الماضي في القلوب)
ظلال الوحدة
الجزء الأول: طريقان مختلفان
في إحدى القرى الريفية الهادئة، حيث تمتد الحقول الخضراء بلا نهاية، عاش محمود برغش، رجل بسيط يعمل في تجارة المواشي واستئجار الأراضي الزراعية. كان له ولدان، أحمد وسعيد، وخمس بنات. كبروا جميعًا في بيت واحد، لكن مصائرهم تفرقت مع مرور الزمن.
منذ الصغر، كان واضحًا أن أحمد وسعيد شخصيتان متناقضتان. أحمد، الابن الأكبر، لم يكن يحب الدراسة، بل كان يرى أن الحياة تُعاش بالعمل الجاد في الأرض والتجارة. أما سعيد، فقد كان طموحًا، يهوى القراءة والعلم، ويحلم بالخروج من القرية إلى المدينة، حيث الفرص أوسع والحياة أكثر انفتاحًا.
كان الأب فخورًا بسعيد، فأرسله إلى العاصمة ليكمل تعليمه. هذا القرار لم يكن سهلًا على أحمد، الذي شعر أن والده يفضل سعيدًا عليه. غُرست في قلبه بذور الغيرة، لكنه لم يُظهرها، بل ركز على عمله في تجارة المواشي، مقتنعًا أن العمل اليدوي هو ما يصنع الرجل الحقيقي.
ظلال الوحدة
الجزء الثاني: النجاح والفقدان
في المدينة، تفوق سعيد في دراسته، وحصل على وظيفة مرموقة، ثم تزوج فتاة من عائلة متعلمة، وأنجب ولدين: هناء وتغريد. بينما بقي أحمد في القرية، يتابع عمله في تجارة المواشي، متزوجًا من ابنة عمه، يعيش حياة هادئة لكن مشبعة بالأسى.
مرت السنوات، وفقد الإخوة والدتهم أولًا، ثم والدهم، فشعر سعيد بوحدة غريبة رغم نجاحه، أما أحمد فحاول تحمل أعباء الحياة دون أن يظهر ضعفه. ولكن عندما حصل سعيد على فرصة للسفر إلى السودان، تفجرت غيرة أحمد من جديد، فبدأ يشعر أن الحياة منحازة لأخيه.
بعد سنوات، كبر الأبناء، وتوفي أحمد، تاركًا وراءه أبناءً بدأوا يتصارعون على الميراث. أصبح سعيد رجلًا مسنًا، عاد من المدينة إلى القرية بعدما أنهى خدمته الوظيفية. لكنه وجد نفسه غريبًا وسط عائلته، فقد تباعدوا عنه بسبب صراعات الحياة، واختلفوا في الأفكار والثقافة.
الجزء الثالث: عودة الماضي
في ليلة شتوية هادئة، كان محمود، ابن أحمد، جالسًا في غرفته الصغيرة، أمامه كتاب مفتوح، لكنه لم يكن يقرأ. كانت أفكاره تسبح في الماضي، في الأحلام التي لم تتحقق، في الحب الذي فُرض عليه التخلي عنه، وفي العائلة التي تفرقت بسبب المال والصراعات.
منذ وفاة والده أحمد، لم يعد يشعر بالأمان في بيته. إخوته لا يتحدثون معه إلا عند الخلافات حول الميراث، والقرية أصبحت مكانًا ضيقًا يخنقه. حتى زوجته، التي لم يكن يريد الزواج منها، لم تكن شريكة حياة حقيقية، بل مجرد واجب فرضته عليه العائلة.
في تلك الليلة، جاءه اتصال غير متوقع. كان المتصل عمه سعيد، الرجل الذي طالما سمع عنه ولم يتحدث معه كثيرًا. كان سعيد قد عاد إلى القرية بعد التقاعد، يعيش وحيدًا في منزل قديم، يقرأ الكتب ويستعيد ذكريات الماضي.
“محمود، أريد أن أراك غدًا، لدي شيء مهم لأخبرك به.” كانت كلمات سعيد غامضة، لكن نبرته حملت ثقل الأسرار القديمة.
الجزء الرابع: حقيقة لم تكن في الحسبان
في اليوم التالي، ذهب محمود إلى منزل عمه. استقبله سعيد بابتسامة باهتة، وجلس أمامه بينما كانت عيناه تمتلئان بحكايات لم تُروَ من قبل.
“أنت تظن أنني كنت محظوظًا، أليس كذلك؟ أنكرت ذلك طوال حياتي، لكني أعرف أنك تحمل في قلبك غصة ضدي.”
لم يُجب محمود، لكنه لم ينكر ذلك.
تنهد سعيد وقال بصوت هادئ:
“هناك سر لم يعلمه أحد عن والدك أحمد… وعن السبب الحقيقي لعدم حصوله على نصيبه العادل من الميراث.”
نظر إليه محمود بصدمة، فهذه كانت أول مرة يسمع فيها شيئًا كهذا.
“والدك لم يكن مجرد فلاح بسيط كما قيل لك، بل كان يمتلك نصيبًا كبيرًا من الأراضي، لكنه اضطر إلى بيعها لإنقاذي.”
“إنقاذك؟!” كرر محمود بدهشة.
أومأ سعيد برأسه وقال بصوت يحمل الندم والأسى:
“عندما كنت شابًا، طاردني الطموح، وأردت أن أجرب التجارة في المدينة. دخلت في صفقة خطيرة مع رجل لا يرحم، وخسرت كل شيء. لم يكن أمامي سوى السجن أو تسديد الأموال، ولم يكن لدي أي مال. في تلك اللحظة، لم أجد أمامي سوى أخي أحمد… والدك، الذي لم يتردد لحظة في التضحية من أجلي. باع كل ما يملك من الأراضي، وأعطاني المال كي لا أسجن، لكنه لم يخبر أحدًا بذلك. حتى عندما بدأ يعاني ماليًا بعد ذلك، لم يشتكِ أو يطلب شيئًا مني. بل ظل يعمل بجهد حتى وفاته.”
الجزء الأخير: الندم المتأخر
شعر محمود بصدمة عارمة، وكأن الجدران من حوله تضيق. لطالما ظن أن والده كان أقل حظًا من عمه، وأنه خسر كل شيء بسبب سوء إدارته، لكنه الآن يكتشف أنه كان رجلاً عظيمًا في صمته، وضحى بكل ما يملك من أجل أخيه.
“لماذا لم تخبر أحدًا؟ لماذا لم تُعِد له حقه؟” سأل محمود بصوت يملؤه الغضب والخذلان.
أطرق سعيد برأسه وقال بصوت حزين:
“كنت أعتقد أنني سأعوضه يومًا ما، لكن الحياة سارت بسرعة، وكنت غارقًا في عملي وعائلتي. وعندما عدت للقرية، وجدت أن الفرصة قد ضاعت. لم أستطع مواجهته قبل موته، لكنني الآن أريد أن أكفر عن خطئي.”
وقف محمود من مقعده، وهو يشعر بمزيج من الغضب والشفقة. نظر إلى سعيد الذي بدا ضعيفًا لأول مرة في حياته.
“ما الذي تريده مني الآن؟ أن أغفر لك؟ أن أتنازل عن حقي مثلما فعل والدي؟”
نظر سعيد إلى محمود بعينين تملؤهما الدموع، ثم قال بصوت خافت:
“لا يمكنني إعادة الماضي، لكني أريد أن أعيد إليكم بعضًا مما فقدتموه.”
مد يده إلى محمود بوثيقة قديمة. تناول محمود الوثيقة بحذر، وعيناه تتسعان بدهشة. كانت عقد ملكية لأرض زراعية، واحدة من الأراضي التي باعها أحمد قبل عقود.
“لقد اشتريتها قبل سنوات، لكنني لم أكن أجرؤ على إعادتها لعائلتك. الآن، أريدك أن تأخذها، إنها حقكم.”
شعر محمود بمشاعر متضاربة. لسنوات، كان يحمل في قلبه مرارة الظلم، والآن، ها هو يرى الحقيقة من منظور جديد. كان والده رجلًا عظيمًا، لكنه لم يحمل ضغينة، بل ضحى ومضى بصمت.
ظلال الوحدة
تنهد محمود، ثم قال بصوت ثابت:
“سآخذها، ليس من أجلك، بل من أجل والدي. ربما لن أنسى، لكنني سأحاول أن أسامح.”
ظلال الوحدة
ابتسم سعيد ابتسامة حزينة وقال:
“هذا أكثر مما أستحق… شكر