في الممر الذي يعبره الليل ولا يلتفت إليه أحد
بقلم/نشأت البسيوني
كان الليل يبدو تلك الليلة كأنه يسير على قدميه يخطو بحذر على هواء ممتلئ بالغياب كأن كل شيء فيه يريد أن يعبر سريعا دون أن يحدث صوتا لا لشيء إلا لأن القلوب المنهكة لا تحتمل فرقعة الحقيقة حين تقع في ذلك الممر الطويل الذي لا يسكنه أحد ولا تزوره الخطوات إلا خطوتين من زمن لآخر كانت الأرواح تنسل كظلال متعبة تبحث لنفسها عن مكان تستريح فيه ولو لبضع أنفاس بعيدا عن ضجيج الداخل الذي لا يتوقف لم يكن الممر سوى بيت ضيق يسكنه الصمت ومع ذلك كان أوسع من كل الطرق التي ضاقت بنا حتى ضاقت بها أرواحنا
كان الليل هناك يزداد ثقلا لا لأنه مظلم بل لأن الظلام نفسه كان يبدو بحاجة إلى من يواسيه كل الأشياء في ذلك الفراغ كانت تشبهنا متعبة صامتة محملة بكل ما لم نقله بكل ما عجزنا عن صياغته بكل ما دفناه في صدورنا كي تستمر الحياة لكن الحياة لا تستمر لأنها عادلة بل تستمر لأنها لا تعبأ بضعف أحد تواصل سيرها كغريب يمر بين الناس ولا يلوح لأحد
في الممر الذي يعبره الليل وحده كنت تشعر أن كل الخطوات القديمة تعود لتسكن تحت جلدك كأن الأرواح تحفظ وقع خطواتها أينما مشت وتعود إليها كلما شعرت بالبرد هناك يعود الماضي دون أن يدعى ويجلس بجانبك دون أن تطلبه يضع حقيبته على كتفك ويخبرك بأنك لم تنته منه بعد الماضي لا يقرع الباب بل يدخل لأنه يعرف أن أحدا لم يعلمنا كيف نغلقه
ولعل أغرب ما في الأمر أن الوجع ليس عدوا كما نظن الوجع معلم صامت يقترب منا حين نهرب ويفتح لنا دفتره القديم حين نظن أننا نسينا إنه يختبر قدرتنا على أن نكون بشرا على أن نعود لأنفسنا حين نضيع وعلى أن نرى ما خبأناه تحت الابتسامات القسرية في ذلك الممر الطويل كان الوجع يجلس كما يجلس رجل مسن على مقعد خشبي قديم ينظر إلينا بعينين تعرفان أكثر مما نقول وتفهم أكثر مما نريد أن نبوح
وكنت تشعر أن العالم كل العالم يمكن أن يختصر في تنهيدة واحدة فقط تنهيدة طويلة كطريق خال عميقة كغرفة قديمة فيها رائحة صور ممزقة تنهيدة تشبه كلمة حزن لم تجد جدارا تتكئ عليه فاستقرت في الصدر كضيف لا يعرف كيف يغادر وهكذا صرنا نعيش التنهيدات بدلا من الأيام ونعد الخيبات بدلا من النجوم ونحصي ما فقدناه بدلا من أن نتذكر ما بقي لنا
في هذا الممر تكتشف أن بعض القلوب تكسر مرة واحدة لكنها تبقى مكسورة إلى الأبد ليست كل الكسور قابلة للترميم وليست كل الجروح قابلة للالتئام فالروح ليست ورقة تلصق أطرافها ولا قطعة زجاج تعاد صيانتها الروح إذا انكسرت تغير شكلها وربما لا تعود كما كانت مهما حاولنا وهذا أصعب ما في الأمر أن يحاول الإنسان أن يعود إلى نفسه فلا يجد الطريق
كان الليل يمر فوق رؤوسنا ثم يترك خلفه رائحة فقد خفيف رائحة تخبرك بأن شيئا ما غادر من دون أن يودع وقد لا تعرف ما الذي غادر بالضبط ربما شخص ربما حلم ربما ثقة قديمة وربما جزء من قلبك لم يعد يريد أن يحمل ثقل الحياة لكنك تشعر به تشعر أن شيئا انسحب منك كما ينسحب الضوء من شق ضيق قبل أن يغلق الباب
وكنت تقول لنفسك إنك ستتماسك ستقف ستواصل ستتجاوز لكنك تعرف تماما أنها مجرد كلمات وأن التماسك الحقيقي لا يكون على
اللسان بل في العمق الذي لا يراه أحد وأحيانا يحدث أن تستيقظ في منتصف الليل ولا تعرف لماذا تشعر أنك تتآكل من الداخل تشعر أنك تبتعد عن نفسك خطوة وراء خطوة كأن شخصا آخر يعيش مكانك يبتسم ابتسامتك يتحدث بصوتك لكنه لا يحمل قلبك
في الممر الذي لا يعبره أحد كانت الأبواب مغلقة والنوافذ ترتجف من أنفاس الليل والجدران تحمل آثار حكايات لم تحك كانت هناك أصوات خافتة ليست أصوات بشر بل أصوات ذكريات تتمشى على أطراف أصابعها حتى لا توقظ وجعا نائما كل ذكرى تحتفظ بنبرة صوت من مروا في حياتنا ورحلوا الذين قالوا كلمة واحدة كانت كافية لتغيير العمر كله ثم مضوا
أحيانا لا نحتاج من الحياة إلا تفسيرا واحدا فقط لماذا يحدث كل هذا لماذا نخسر من نحب لماذا يصبح الذين كانوا أقرب إلى القلب أبعد من الهواء الذي نتنفسه لماذا يتركنا الذين وعدونا بالبقاء لماذا ينكسر القلب من كلمة لم تكن مقصودة ولماذا نمشي في طرق لم نخترها لا أحد يعرف الحياة لا تفسر نفسها ولا تعتذر عن أخطائها ولا تمسح دمعنا حين نبكي إنها تعرف أننا سننهض مهما حدث وتعرف أننا سنواصل مهما انكسرنا وتعرف أننا سنحب مرة أخرى رغم كل الخيبات ولهذا تستمر في اختبارنا
في ذلك الممر تسأل نفسك كثيرا هل نحن من ترك الحياة خلفنا أم هي التي تركتنا هل نحن من خذل الآخرين أم نحن الذين خذلنا هل نحن من ضياع الطريق أم الطريق هو الذي ضاع منا لكن الأسئلة في الممرات المهجورة لا تأتي كي تجد الإجابات بل تأتي كي تذكرك فقط بأنك ما زلت تبحث
وهناك حقيقة مرة نتجاهلها أن أقسى ما يمكن أن نفعله بأنفسنا هو أن نتظاهر بالقوة ونحن في أقصى درجات الهشاشة أن نبتسم بينما أرواحنا تبحث عن زاوية تبكي فيها أن نخبر الآخرين بأننا بخير ونحن نخاف أن تلمس يد ما كتفنا فننهار دفعة واحدة الهشاشة ليست عيبا لكننا نخفيها كي لا نصبح فريسة في أعين الناس رغم أن الضعف هو أكثر الأشياء التي تجعلنا بشرا
وتستمر الحياة ولا أحد يسأل كيف حال قلبك هل يؤلمك شيء هل استطعت أن تنجو من آخر خيبة هل استطعت أن تعيد ترتيب جروحك هل نمت ليلة واحدة دون أن تفقد جزءا من روحك لا أحد يسأل ولهذا يظل الممر الطويل مزدحما بأصوات خفية أصوات تشبه أنينا لا يصل إلى السمع لكنه يصل إلى الروح
ربما كان أجمل ما في الليل أنه يسمح لنا أن نكون حقيقيين يسمح لنا أن نواجه أنفسنا دون خوف من عين ترانا ودون حاجة لارتداء الأقنعة الثقيلة التي نحملها في النهار في الليل نكون نحن بلا زخرفة بلا مجاملة بلا خوف من انكشاف الليل يشبه اعترافا طويلا لا يكتب ولا يقال لكنه يسمع فقط في مكان ما بين القلب والصدر
وفي ذلك الممر يحدث أن تتذكر نفسك القديمة تلك النسخة التي كانت تمشي بخفة تضحك بلا خوف تحلم بلا شروط وتثق بالعالم
كما يثق الطفل بيد أمه تتساءل أين ذهبت تلك النسخة من سرقها الزمن الناس أم نحن حين سمحنا لهم أن يعبثوا بها وربما تدرك أن النفس القديمة لم تغادر بل اختبأت فقط في ركن بعيد تنتظر اللحظة التي نكون فيها مستعدين لاحتضانها مرة أخرى
ومع كل هذا يبقى شيء صغير ضعيف هادئ يشبه الضوء الذي يصر على العبور حتى من أصغر الشقوق شيء يرفض أن يموت رغم كثرة ما مات فينا شيء يهمس من الداخل تابع ليس لأن الطريق جميل ولكن لأن الوقوف موت بطيء تابع ليس لأنك قوي ولكن لأنك حاولت بما يكفي لتستحق لحظة سلام تابع لأن قلبك رغم كل
شيء لا يزال يبحث عن ميناء
وهكذا في الممر الذي يعبره الليل ولا يلتفت إليه أحد نكتشف أن الحياة بكل ما فيها من تعب ومن ضياع ومن انكسار لا تزال تحمل لنا احتمالا صغيرا بأن نتعافى بأن نبتسم يوما دون خوف وأن نجد في نهاية الطريق بابا مفتوحا ينتظرنا
في الممر الذي يعبره الليل ولا يلتفت إليه أحد


