الشعر

قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” النّار والسّنبلة

جريدة موطني

قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” النّار والسّنبلة” ” للشّاعر المصري الكبير” عبّاس محمود عامر”قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة " النّار والسّنبلة

بقلم الباحثة التّونسيّة د. نور بوعزيز

      تزامنا مع قتامة الواقع العربيّ المعيش، وضبابيّة المواقف إزاء القضايا الوجوديّة والمصيريّة بين مناصر ومناهض ومحايد. استقبلت هديّة فريدة، إنّها قصيدة عربيّة حديثة تؤرّخ لأمجاد العروبة وتتغنّى بقيمها النّبيلة وتدعو ضمنيّا إلى الحبّ والسّلام والتّسامح. وحينما أرست سفينة أفكاري على مرفئ أعمال الشّاعر المصريّ الكبير ” عبّاس محمود عامر” الّذي تبوّأ مكانة مميّزة في السّاحة الأدبيّة العربيّة والعالميّة حديثا. وسافرتُ بين مفرداته سفرا أسطوريّا، وتأمّلت سيرته الذّاتيّة كعاشقة تمعن النّظر في عيني حبيبها أزليّا. أيقنت أنّ صديقي الشّاعر”عبّاس محمود عامر” شاعر الحبّ والسّلام، فمنبع شعره هو الشّعور الّذي يجعله يعزف خلجاته وخبايا ذاته بقيتارة الشّعر لأنّه مؤمن بأنّ سلطة الأبجديّة قادرة على تخطّي الزّمان والمكان إمّا بعمليّة استرجاعيّة أو بنظرة استشرافيّة. أو بمزجهما معا في سمفونيّة اللّغة والابتكار.

     ولأنّ عالم الشّعراء عميق حيث تنهل كلّ ذات شاعرة من حقول معرفيّة خصبة ومتنوّعة، فنظفر في شعر ” عبّاس محمود عامر” جمعه بين الماضي التّليد والحاضر الأليم، بين حقب المجد وزمن الخيبات، بين الوعد والخذلان. وأكثر من ذلك، عندما يمزج معجم الحياة الّذي تزهر عناصره ويفيض عبيرها ليدغدغ الأفئدة في كلّ زمان. ها هو عطر الزّهر يتجمّل به عشّاق الأرض، وأبطال الإنتصارات المتتالية، وسلاطين المعارك الوجوديّة الضّارية الّتي يخرج منها المنتصر إمّا شاهدا أو محتضنا شهيد الـأرض والورد. أو يتيما متوعّدا بمواصلة الصّمود. وتعقب كلّ هذه الأحداث الدّامية زغاريد الأمّهات وهتافات الأباء والرّفاق. إنّهم يصنعون من الموت حياة جديدة. فهل رأيتم عرسا يوم جنازة؟ وهل سبق أن لمحتم ميّتا يخجل من حيّ؟ وهل تعلمون أيّ المدارس علّمتهم أن يحملوا جبال التّحمّل وسفن المشقّة في سبيل الحفاظ على كرامتهم؟ وهل سألتم أنفسكم يوما إلى أين نحن آفنون؟

     هنا يتجلّى الشّاعر متمسّكا بعروبته ورموزها، حيث يعلن ذلك منذ الوهلة الأولى تحديدا في عنوان قصيدته ” النّار والسّنبلة” الّذي يعدّ السّمة الأبرز والمميّزة للقصيدة العربيّة الحديثة والمعاصرة عن القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة. ولأنّ القضايا الرّاهنة تدعو إلى الحريّة والنّضال والتّمسّك بالأصول أو التّذكير بها لتحفيز الهمم على استمراريّة المقاومة. فقد ورد عنوان القصيدة مركّبا عطفيّا مزج بين مفردتين متقاربتين معجميّا، ومتباعدتين دلاليّا. فالعنصر الأوّل تمثّله لفظة “النّار” الّتي تحيل على بعض قيم العروبة البنّاءة مثل الجود والكرم، وترمز في الآن ذاته إلى الثّورة والتّمرّد على كلّ مظاهر الطّغيان والجور. أمّا العنصر الثّاني يتجلّى في لفظة “السّنبلة” وهي عنصر طبيعيّ يرمز إلى الاخضرار والرّخاء والخير الكثير. وإذا ربطنا بين المعطوف عليه والمعطوف فإنّه يتبادر إلى أذهاننا الأسئلة الآتية: ما الغاية من تقديم مفردة النّار على مفردة السّنبلة؟ وهل يمكن الإقرار بأنّ عنوان القصيدة إحالة صريحة على الهويّة والانتماء ورمز من رموز الأحرار في الوطن العربيّ والعالم لاسيّما وأنّ الوضع متأجّج وينذر بسقوط عدد أكبر من ضحايا الحرب والعدوان؟

     حين ولوجنا متن القصيدة بعد وقوفنا عند عتبتها، وقراءتنا المتأنّية لأسطرها بغية تفكيك بنيتها واستنطاق مفرداتها واستنباط معانيها، بدا لنا الشّاعر رسول الأمّة الغافلة. الأمّة الّتي تجرّدت من جذورها ولبست لباس الغريب الّذي لا يليق بتاريخها وحضارتها. فما الحلّ الّذي ستستقدمه الذّات المتلفّظة يا ترى؟

في واقعنا المتأزّم، انتقاده فرض، والإشارة إلى مساوئه ومواطن الدّاء فيه يعدّ صدقة جارحة على أراوح الأبرياء. والدّعوة إلى اعتناق الإنسانيّة بإيقاظ الضّمائر، وقبر جثث الكره والبغضاء والتّناحر يمثّل أكبر الغزوات وأجمل الانتصارات. ولأنّ الذّات الشّاعرة واعية بخطورة المرحلة وعمق المأساة، فها هي تذكّر الغافلين والحاقدين، والمتجبّرين والمستبدّين لعلّ الذّكرى تنفعهم. فتستفيق العقول من غفوتها؛ والقلوب من كربتها؛ ويعمّ السّلام أنحاء المعمورة؛ ويشعّ قنديل الأفراح ويغمر كلّ بيت. فيواصل الشّاعر رسالته حينما يعمد إلى تشكيل قصيدته وفق خمس وحدات تفصل بينهم مفردة ” حِينَمَا” الّتي تعبّر عن الظّرفيّة الزّمانيّة [تحديدا جمعت بين تزامن وقوع حدثين أو أكثر مع النّتيجة الحاصلة]. فنلقاه في الوحدة الأولى يقدّم فرضيّة تخصّ مقدار الوحدة العربيّة وحدودها. لذا نجده يعتمد صيغة المضارع المرفوع الدّال على استمراريّة الحدث وذلك بواسطة الأفعال ” يُبْهِتُ، تَنْسَلُّ، يَهْرُبُ، يُغَلِّفُهُ” في مقابل فعل واحد ” عَصَمَتْ” دلّ على انقضاء الحدث وقد ورد في صيغة الماضي. وإذا تبصّرنا مليّا في علاقة الأفعال ببعضها فإنّ الفعل الماضي هو خيط ناظم بين المسبّبات والنّتائج. أي أنّ اندثار اللّون العربيّ وانسلال الخيوط الّتي حفظت شمل العرب ووحدتها ينجرّ عنه اختفاء الملامح العربيّة والدّم العربيّ وحلول القتامة والأتربة محلّه. لذا نجد الشّاعر يتقمّص وظيفة الخطيب مؤكّدا على ضرورة الحفاظ على إراقة ماء الوجه وعلى الوحدة العربيّة، محذّرا من عقبة الانقسام والتّشظّي. فيقول متمسّكا بضرورة الاتّحاد وقوّته:

” حِينَمَا 

يُبْهَتُ اللَّوْنُ فِي ثَوْبِنَا العَرَبِيِّ

وَتَنْسَلُّ كلُّ الخُيُوطِ الَّتِي

عَصَمَتْ شَمْلَنَا

يَهْرُبُ الدَّمُ مِنْ وَجْهِنَا

وَيُغَلِّفُهُ اللَّيْلُ وَالأَتْرِبَةُ..”

ولأنّ محاولات الإقناع قد تبوء بالفشل، فإنّ الشّاعر يواصل خطّته لإقناع المتلقّي وتوعيته بالقدر الكافي الّذي يضمن سلامة الجميع. فوظّف في الوحدة الثّانية فرضيّة أخرى أكثر بساطة للاستدلال على مساوئ اختيار الوقت غير المناسب والتّلاعب به، وما ينجرّ عنه من أخطار قد تتسبّب في موت مفاجئ لن ينجو منه أحد. فيستحضر السّجل الطّبيعي ويصنّفه إلى مفردات تعبّر عن مباهج الحياة ولذّتها وهي ” الزّهر، البساتين، السّنبلة” في مقابل ذلك يستدعي لفظتي ” الشّوك، النّار” المسبّبة للعقبات والأزمات. ومن هذا المنطلق يدعو الشّاعر إلى التّأنيّ وإعمال العقل حتّى نتجنّب حدوث المكاره. ويستعرض النّصائح الّتي تقي من حصول الفتنة والحروب مجسّدا إيّاها في مشهد طبيعيّ يحمل الرّصاصة والنّار. وهذا نصّ القصيد:

“حِينَمَا نَقْطِفُ الزَّهْرَ

حِينَ انْبِلاَجِ البَسَاتِينِ

يُصْبِحُ شَوْكًا

لِكَيْ يُشْعِلَ النَّارَ

فِي السُّنْبُلَةِ”

     وتتواتر المشاهد الطّبيعيّة المجسّدة لخطورة الانقسام في الوحدة الثّالثة، فيرمز إلى الإنسان المكبّل والمجرّد من كلّ حقوقه وحريّاته بالطّير الّذي يسقط فريسة في شباك العدوّ، ويكون مصيره الذلّ والمهانة والموت البطيء. واستعارة المخلب للقهر أكبر برهان على قسوة الواقع ويمكن أن نستدلّ على ذلك بقوله:

” حِينَمَا يَسْقُطُ الطَّيْرُ

فِي مِخْلَبِ القَهْرِ

بِالشَّبَكِ المُنْتَصِبِ”

      ثمّ يستحضر الشّاعر ضرورة المحافظة على عنصر الماء الّذي يعدّ سرّ وجودنا وبقائنا على قيد الحياة مقدّما الفرضيّة ونتيجتها. كأنّه يوجّه مسار القارئ إلى التّأمّل مليّا في هذا العنصر الّذي يربط الوحدتين السّابقتين بهذه الوحدة ثمّ بالوحدتين اللاّحقتين. داعيا إلى بقائه في ودياننا وأنهارنا حتّى نضمن عيشا كريما. لأنّ نقص هذا العنصر الحيّ أو شحّه يؤدّي حتما إلى اندثار السّنبلة وبساتين الزّهر والاحتضار، فاستنشاق رائحة الموت ثمّ فقدان كلّ مستلزمات الحياة. وهذا ما أجبر الشّاعر على تكرار الظّرفيّ الزّمانيّة “حينما” ثلاث مرّات متتالية واعتمادها فاصلة إيقاعيّة تؤثّث الإيقاع الدّاخليّ وتشدّ انتباه المتلقّي لتأكيد ضرورة التّشبّث باتّحادنا واجتماعنا حتّى لا نفقد هويّتنا [الثّوب، الدّم، الزّهر، الطّير، الماء، النّسمة العاطرة]. ويختم معطياته مصوّرا فظاعة المشهد في غياب الاتّحاد، وحضور الضّعف وشحّ الماء وانتشار الموت. فماذا بقي إذن؟ إنّها بقايا ملح وحرّ تنهش جسد وطن يحتضر:

” كُلُّ شَيْءٍ تَبَخَّرَ

إِلاَّ بَقَايَا مِنَ المِلْحِ وَالصَّهْدِ

تَأْكُلُ فِي جَسَدِ الوَطَنِ المُنْشَطِرِ”

      إنّ الصّورة الدّغمائيّة الّتي تنقلها الذّات المنشئة تجعلها في الوحدة الرّابعة تواصل هذه القتامة بالرّغم من حضور عنصر المطر بل تكون الصّورة أكثر تعقيدا وثقلا. فالأعاصير الّتي واجهتها الذّات ورفاقها تركت جرحا عميقا لا يندمل. لكن ما الحل؟ هل سيواصل الشّاعر تصوير قتامة اللّون الّذي يخيّم على المشهد؟ طبعا لا. فأنا الشّاعر لا يستسلم بل يواصل صموده من أجل تغيير الواقع المؤلم، وذلك برفع الجبس والأربطة الّتي تثقل الكاهل وتجعله عاجزا عن الفعل والحركة والتّعبير، وينجرّ عنه إحساس الجماعة بالفقد في “شهقات النّقاهة” أو في توقيت الهدنة. ممّا يجبر الأنا عن طرح سؤال انكاريّ ” هَلْ غَدًا يَلْتَئِمْ..؟” مبيّنا حيرة الجميع تجاه هذا الواقع المفزع.

      ولأنّ تقمّص دور المصلح الاجتماعي أو الخطيب أو الثّائر على أوضاع اجتماعيّة وسياسيّة مزرية يتطلّب حنكة وذكاء وحكمة. فإنّ الشّاعرالمصري” عبّاس محمود عامر” في الوحدة الأخيرة قد ارتدى ثوب العاشق الّذي لا يعرف حدودا لعطائه، ونادى بصوت الثّائر الّذي نهض من تحت الرّكام، متمرّدا على السّائد، فيقول داعيا إلى الحبّ والسّلام لأنّ احتلال القلوب وكسب تعاطفها يكون بالسّلم والتّسامح ونبذ العنصريّة المقيتة لا بالعنف وسفك الدّماء: 

” حَتْمًا يَلْتَئِمْ

عِنْدَمَا.. يَعْشَقُ القَلْبُ

رُوحَ الحَمَامْ…”

      أقولها وأختم، إنّ الشّاعر الّذي لا يحمل في قاموسه لفظة ” مستحيل” حتما سيكون شاعر الأمّة في انتكاساتها وهزائمها، قبل أمجادها وانتصاراتها. لأنّ الشّاعر الحقّ تعلّم أن يعشق بجوارحه، ويصلح ما فسد برجاحة عقله، وأن يرقص زمن المآسي، وينشد أغاني الفرح والبشائر زمن الحروب. وأن يتجمّل بحلّة الصّبر والإرادة. عندها سيلتئم الجرح الغائر، وتختفي آثاره لمّا يعشق الإنسان بقلبه لأنّ العشق العفيف يولد حقيقة استثنائيّة تجمع بين لين القلب ونقاء الرّوح، بين الثّابت والمتحرّك، بين المحسوس والمجرّد. فيكون الجمال اكتفاء بخلود الكلمة الّتي تسافر عبر القارّات فتكون السّيف لمن ظلم والبنفسج للأحبّة. ولأنّ ” شاعر مصر” مؤمن بمجد الكلمة وقوّة تأثيرها في الضّمائر الحيّة، فها هو ينشر شذى السّلام والحبّ والحياة في سماء الأوطان العرجاء متوسّلا رمز الحمام وصفاء لونه في قصيدة مزجت بين القوّة والضّعف، بين الوحدة والانقسام، بين الخلود والفناء، بين النّار والنّور. لتظلّ سلطة الحرف كمنجة ذوات الأحرار وعزفهم المنفرد في حاضر ينتصر للأشرس وللأقوى. 

    هكذا، كان وسيظلّ الشّاعر الكبير “عبّاس محمود عامر” صوت الإنسانيّة الّذي ينبذ العنف ويؤسّس عرش مملكته بسلطة عناد حرفه الّذي أصرّ على معالجة الأوضاع الرّاهنة بغزارة البذل والعطاء مؤكّدا على أنّ شعلة النّار ستكون قادحا لميلاد أكثر من سنبلة مادامت هناك ذوات خير تنبض حبّا تمّوزيّا.       

في الحتام أتوّجه بأسمى عبارات التّقدير والودّ إلى الشّاعرالمصري الكبير “عبّاس محمود عامر” راجية له مزيد التألّق والإشعاع.

من نور تونس إلى كلّ الأحرار في العالم. 

قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” النّار والسّنبلة 

قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” النّار والسّنبلة

قراءة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” النّار والسّنبلة

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار