منوعات

قراءة تحليليّة ونقديّة لقصيدة “جرس النّسيان” للشّاعرة ” ناهد الغزالي”

قراءة تحليليّة ونقديّة لقصيدة
“جرس النّسيان” للشّاعرة ” ناهد الغزالي”

*تقديم : مفتاح الحاج _ جريدة موطني _ تونس

* بقلم الدّكتورة ” نور بوعزيز”

الاستاذة والشاعرة “ناهد الغزالي ” هي أستاذة لغة واداب فرنسية باعدادية السواسي من ولاية المهدية تونس ….

لكن رغم اختصاصها في اللغة الفرنسية فانها تعشق لغتها العربية وتكتب الشعر باللغة العربية …

كتبت عدة نصوص شعرية رائعة ومن بينها نص
” جرس النسيان” الذي شد انتباه الدكتورة ” نور بوعزيز ” وقامت بقراءة تحليلية نقدية ثرية حول النص …

ننشرها في جريدة موطني …..

يُقال بأنّ النّسيان؛ نسيان يوم ثقيل أرهق كلّ رغبتك
في العيش والتّواصل مع الرّفاق، نسيان ذكرى مؤلمة
لا تزال محفورة في تفاصيلك، نسيان شخص عزيز
كان أقرب لك من حبل الوريد أسهل طريقة لمواصلة الحياة. والحال أنّ أسوأ أنواع المعاناة وأمرّها على المرء
هي محاولات النّسيان الّتي تبوء بالفشل. وما أثقلها !
وما أدماها ! خصوصا وأنّ الجسد يومها كان مرهقا من ليالي السّهد، والذّاكرة منهكة من سنين السّفر بين زمن جميل وحاضر موحش. بين الأيّام الخوالي والدّقائق المميتة
من أجل التّخطّي. تخطّي أوجاعكَ وأنتَ في قمّة وهنكَ وضعفكَ. تخطّي حنظل اليوم، وماضيك كان مزيجا من شذى الورد. والآن، أنتَ مجبر على أن تلملم أشلاءك المبعثرة بين من يحتلّكَ، وبين من يتمنّى وِصالكَ. بين من يغفر لك زلّاتكَ، وبين من ينتظر هجرك عند الخطيئة الأولى.

بين ما تريده أنتَ، وما يحصل لكَ في غمرة الحياة
الّتي هي فيض من ذكريات الأمس وأمنيات اليوم.
ولكن؛ كلّ منّا له طريقته المعهودة لدقّ جرس النّسيان؛ وإعلان موسم المسرّات. بدءا بالعبث في أغوار النّفس الملتاعة بين الشّوق والهجر، بين الحنين والفراق
لعلّ المرء يجد ملجأه ولو لبرهة من الزّمن. ليطرح أحزانه وأوجاعه على أرضه الخالصة، ويدفنها تحت رمال
مشاعره الفيّاضة؛ ظنّا منه أنّ السّعادة الّتي تغمره فجأة قادرة أن تميت كلّ مآسي هذه العقود.

ولأنّ سيكولوجيّة المرأة تختلف عن طبيعة الرّجل
في التّفكير والتّعبير، فقد اختارت الشّاعرة التّونسيّة
“ناهد الغزالي” لغة المشاعر رغبة منها في بناء عالمها الخاصّ الّذي يتّسم بصفتيْ الدّفء والسّلام الدّاخليّ.
فكأنّها وراء هذه الكلمات تقول مكابرة: نحن النّساء عادة
ما نبحث عن الاستقرار بين حضن رجل يفهمنا قبل البوح، ويواسينا بباقة ورد مختلطة بعبارات الحبّ قبل الشّعور بخوفنا من فقدان الأشياء الّتي نحبّ.

نحن النّساء نعشق التّفاصيل الصّغيرة، ونكره الإهمال.
نقترب هرولة من الّذين يغرقوننا في بحر الاهتمام،
ونفرّ كالبرق من الّذين يزرعون لنا سراب الأوهام
في مخيّلاتنا. ببساطة المرأة القويّة هي الّتي تنسى دون حقد،

وتحوّل جرس نسيانها إلى ممارسة فعل الكتابة عبر قوّة التّخييل. ولأنّ “ناهد الغزالي” امرأة تعشق لغة الضّاد، خبيرة بتاريخها العريق، وتألف قاموسها وسجّلاتها.

فقد فضّلت أن تجمّل ذاكرتها بقصيدة غلب عليها النّفس التّفاؤليّ رغم أنّ العتبة الأولى وهي عنوان النّصّ الشّعريّ ” جرس النّسيان” كان مختالا للقارئ. وهنا نقف لحظة تأمّل ونستحضر قولة شيخ الأدب الرّوسي الكاتب
“أنطون تشيخوف” قائلا:

“احذر المرأة بعد البكاء فإنّها تكون أكثر قوّة”.

وهذا التّحديّ يتمظهر منذ السّطر الأوّل. فالشّاعرة رغم رهف مشاعرها فإنّها قادرة على تلقين عنصر طبيعيّ.

وهنا يكمن إصرار الذّات على إتقان فنّ التّلاعب بالمفردات
كي تبرهن قوّة صمودها أمام عواصف الانكسارات.

يبدو أنّ ما نظمته الشّاعرة هي مشاعر فاضت إمّا شوقا
أو حرقة، ألما أو أملا. وربّما ما دوّنته هو فوز بعد انكسارات متتالية، وتجاوز بعد صدمة الخذلان وخنجر الخيانة، وميلاد جديد بعد موت بطيء.

فالمرء لا يكتب من فراغ. بل يدوّن التّراكمات الّتي جعلته يلجأ إلى البوح. والدّليل أنّ الشّاعرة كتبت نصّها بلغة سلسة قريبة من الوسط المعاش.

ولأنّ الشّاعرات يمتلكن طبعا رهيفا، فإنّ لغة هذه القصيدة تعكس نفسيّة صاحبتها وإحساسها بالوجود، ورغبتها في حياة أكثر إشراقة بعيدا قتامة الواقع. ما جعلها تستهلّ قصيدتها باستعمال معجم النّور ” الشّروق، الضّياء، صباحاته”
وكأنّها تتحدّى كلّ القوى المعادية لتوقها بمعانقة أحلامها
وهي تتحقّق. وما يزيد الصّورة الشّعريّة جمالا كون الذّات الشّاعرة توظّف أفعال المضارع ” ألقنُ، يمرُّ، أربّتُ، أختمُ” للدّلالة على استمراريّة الفعل من أجل التّغلّب على فكرة القبوع في المنتصف، أو فعل الخضوع لإملاءات الآخر.

فالتّخطّي بالكتابة سمة المرأة الّتي ترفض الاستسلام. فتصبح القصيدة بيت الذّات الشّاعرة وملاذها. فيه تزيح ثوب الحزن والحداد، وتتوشّح بلباس العفّة والفرح.
إنّه عرس يليق بامرأة صمدت أمام أعاصير التّحدّيات، وعنفوان التّقاليد البالية الّتي تجعل المرأة آلة تُستخدم
عند الحاجة. وانتصرت لقيمتها في مجتمع ذكوريّ
يراها شهوة لا مدرسة، جسدا لا روحا. لتثور بكلّ قواها وتصمد أمام سهم التّوقّعات وحجر الاحتمالات،

لأنّها تؤمن بأنّ المرأة الحقّة هي الّتي لا تنصت ولا ترى
ولا تسمع إلاّ لقلبها، قائلة:

” وأختم مساءاته
بضمّة عطر ! ”

ولأنّ الحروف تموت حين تُقال، فقد حبّذت الذّات
أن تكون الضمّة استثنائيّة، فكانت ضمّة عطر لا ضمّة حضن.

وأعقبت هذا المشهد الرّومانسيّ بمشهد آخر يؤكّد
حرص الذّات على حاجتها للحبّ في حياتها وحياة كلّ النّساء بأسلوبين إنشائيين. ألا وهما النّداء والأمر في قولها:

” يا غيم الحياة
” املأ كفوف النّساء”

الذّات الشّاعرة تتجلّى سيّدة نفسها، إنّها ذات متمرّدة ورافضة لعتمة السّواد المخيّم على واقعها الرّاهن.

إذ تنهض من تحت رماد أحزانها، لتعانق حبّا تمّوزيّا بمعيّة
كلّ النّساء اللاّتي تذوّقنا جرعة الخنجر المسموم.

وسرعان ما تجد الذّات التّرياق الّذي سيعالج الجروح الغائرة الّتي خلّفها خذلان الخيانة والاستهتار أو خذلان الإهمال.

وتأمر عبر استعارات متعدّدة غيم الحياة أن يعزف حبّا عظيما في كفوف الرّاحة. في كفوف أعياها الهجر والجور، أثقلها الحنين الممزوج بالعتاب. أنهكها الغدر الموشّح
بنكران الجميل. وهذا نصّ القصيد الّذي ملأ الأيادي
بِطاقة الحبّ الأسطوريّ:

” حبّا عظيما
فقد صفعتهنّ
قلوب صدئة لا ينبت فيها
الوفاء !”

لأنّنا نتعلّم من خيباتنا وصفعات الزّمن،
من الدّمع الّذي ذرفناه بدم المقل، فقد بدت الذّات حذرة ومتخوّفة من مشاعرها الّتي قد تخونها مرّة أخرى؛
وتجبرها على العودة من جديد إلى النّقطة الصّفر.

فلم تجد مخرجا من هذا المأزق سوى أن تتوعّد الحنين
في صورة شعريّة تشبه مشهدا طبيعيا متحركا .

، وهي تقول متوعّدة عصافير الحنين لأنّ الذّات اتّخذت قرارها النّهائّي وهو عدم العودة إلى الماضي، وأنّها ترفض المساومة. فتقول موظّفة حرف السّين الدّال على المستقبل القريب.

” سأهشُ عصافير
الحنين
إنْ ساومتني بزقزقة اسمكَ ”
وأمضي في طريق يُزرع فيه
النّسيان
حبقا أخضر”

هنا نتوقّف أوّلا، عند عبارة ” إن ساومتني بزقزقة اسمكَ” الّتي يتجلّى فيها كبرياء الأنثى وعنادها.

أنثى ترفض شوك الإهمال والجفاء وهي تعزف مقولة
الشّاعر الفلسطينيّ الرّاحل “محمود درويش” بنبضات فؤادها:

“كنتُ سأحاربُ بك الأهل والقبيلة أمّا الآن لو جئتني ببلدان العالم لا أريدك.. !”.

ثانيا، استوقتني مفردة “النّسيان” الّتي تشير إلى نسيان اللّيالي الطّوال، نسيان الوجع الّذي حطّم قلوبا وأرهق عقولا.

نسيان الأسى الّذي تسبّب في عزلة العاشقة العذريّة.
لكن ما حيلة الذّات المتلفّظة أمام قلب ينبض شوقا وحنينا؟

لأنّ الحبّ خارطة الحياة، ورمز الفرح، تحاول الذّات
أن تكون بكامل أناقتها، لتتخطّى كلّ حجر الصّعاب
من أجل أن تحصد ثمرة التّخطّي. ولعلّ في عبارة
“حبقا أخضر” استشراف لمستقبل أفضل، وحياة مزدانة بالحبّ والأمل.

وتختم قصيدتها بمقاطع تستقطب القارئ والنّاقد معا.
وكأنّها تستدعي ذلك القارئ المجهول أن يشاركها إتمام
هذه المقاطع والفراغ الّذي يتبعها بعبارات تؤثّث هذا البياض، وتملؤه بعاطفة مفقودة، وبمشاعر مبعثرة كثيرا ما بحثت
عنها الذّات في أغوار نفسها. إذن؛ لننشد معا:

نس: نسائم فرح آتية ستغمر قلوب النّساء المتعطّشات لنور الحريّة، ولورد الكلمات، وللذّة الحبّ العذريّ.

تن: تُنسى كأنّكَ لم تكنْ، تنال المرأة القمر حينما تغار
عن من تحبّ.

شق: شقّ جديد مليء بحياة ورديّة أكثر جمالا وفتنة. أعمق حبّا ورقّة.

ه: هل يخفى القمر؟ آهات المرأة العاشقة تجعل منها امرأة محاربة ومدافعة عن حقوقها المسلوبة، وعن أحلامها الممكن تحقيقها. فلا مستحيل عند امرأة عشقت بكلّ جوارحها.
فهي قادرة أن تحضن الشّمس في حالة حبّ.

أنا: أنا امرأة حبكت من خضرة الحبق فستانها، ومن نور الصّباحات تاجها، ومن عتمة المساءات كُحْلَها، ومن دمع عينيها عقدا من اللّؤلؤ. أنا أميرة هذا الزّمان، يصعب عليكم هزيمتي ما دمتُ أعرف كيف أتجدّد، وأصنع نفسي كلّ يوم بقوّة أناي الّذي يرفض أن يكون هامشا.

وفي قولها: ” أَنَا قَلْبٌ” تأكيد على أنّ المرأة كتلة مشاعر وأحاسيس. فالقلب رمز العاطفة بما في ذلك الحبّ.
وهنا إشارة إلى أنّ الشّاعرة تسير نحو النّضج العاطفيّ ”
قَلْبٌ يَكْتُبْ..”. فهذا الكائن الّذي يعدّ موطن الأسرار والأحاسيس رغم كسره فقد جُبر، وتعافى بعد حرمان
لينطلق نحو نهج آخر آملا في أن يصادف حبّا خالدا.
هذا يعني، أنّ النّموذج تبلورت ملامحه بواسطة الخبرات الّتي اكتسبتها الذّات الشّاعرة انطلاقا من معاناتها الّذي مكّنها من اعتماد حكمها العقليّ على الفراسة والحدس.

في ختام هذه القصيدة الّتي حملت في متنها صراعات وانتصارات الذّات المنشئة معا، وقد ازدانت بالاستعارات والتّشابيه الّتي جعلت العبارات تتراقص، والمفردات تنبض،
والأحرف تنزف شهد الحياة من فاه أنثى ظلّت شامخة بكبريائها القاتل. أقول للشّاعرة “ناهد الغزالي” يليق بك
الكبرياء، فقد صنعت من حنظل أوجاعكِ، وجراحات عواطفكِ سلاحا فتّاكا اسمه سلطة الحرف لتتربعي كوكبا في كبد سماء اللّغة العربيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى