لا يتعلق الجهل بتراثنا
بقلم / يوسف المقوسي
المعنى هو ما في النفس، إدراك الأشياء وبقية العالم الخارجي. هو انفعال عالمك الداخلي تجاه العالم الخارجي. لذلك يكون المعنى داخلياً في كثير من الأحيان؛ يُسمى التأمل في حال المعرفة، والتألم في حال الوجع. للنفس حالة مستقلة؛ بها نستقل عن كل شيء خارجي، لكنها لا تتطوّر وتزداد معرفة إلا بمعرفة العالم الخارجي.
يزداد الإنسان شرفاً بهذه المعرفة، وإلا لما كانت “معنويات” تعني ازدياد الاعتداد بالنفس. وهي جمع ما يُنسب الى المعنى. المعنويات الحقيقية تعني زيادة المعرفة عن طريق الإدراك. زيادة ما يعتد به الإنسان ويشتد به شرفاً.
نفقد المعنى بفقدان المعرفة. نفقد الشرف (المعنويات) بفقدان المعرفة. يتحوّل المجتمع الى الجهل. نعود الى الجاهلية. لكن الجاهلية التاريخية، أي ما قبل الإسلام، كانت جاهلية إيمان لا جاهلية معرفة. الإيمان لا يزيد ولا يُنقص شيئاً من المعرفة. الإيمان شكل من أشكال المعرفة. هو الشكل المطلق والأقل اعتماداً من أجل تطوّر المعرفة. لا تتطوّر المعرفة إلا بعدم الإيمان: بالشكّ والنقد والتجريح. بالاستعداد الدائم للإقرار بالجهل، وبالاستعداد الدائم لاعتناق عقيدة (ومعان) جديدة بغضّ النظر عن الإيمان. فليبق الإيمان كما هو، ضرورياً ومهمّشاً لكل فرد. وليصير الى تطوير العقيدة والى نبذها أحياناً من أجل أخرى تستند على المعرفة الحقة، وعلى الإدراك، وعلى المعنويات؛ على شرف المعرفة.
تهبط المعنويات لدى شعب من الشعوب عندما يهبط منسوب المعرفة عنده؛ لا تعود المعاني هدفاً للبحث؛ ولا اكتشاف المعاني الجديدة لترك معتقداتنا القديمة. الوجاهة الكاذبة معنويات أصحابها كاذبة. المعنويات الجدية تستند الى معرفة حقيقية. عالم القرون الوسطى لم يكن واضع العمامة على رأسه، بل حامل القلم. حاملو القلم كانوا أهل العلم. أصحاب العمامة كانوا لأمور يومية شرعية أو غير شرعية؛ علوم لم يكن يلزمها كثير من العلم. في كل حال، كان علمهم يستند الى استنباطات من آيات أو أحاديث، ولم تكن تؤدي الى اكتشافات جديدة. كانوا يكررون القول، ولم يكن لهم احترام عند الناس. سمّوا أنفسهم علماء ولم يكونوا أهل علم.
مجتمعاتنا العربية تحتقر العلم وتحترم التكنولوجيا: التكنولوجيا التي ينتجها الغرب من آلات، وطيارات، ومعامل، وزراعات جديدة، وخدمات إلكترونية نستهلكها بكل سرور، وتدور حياتنا حول استهلاكها، ثمّ نزداد جهلاً. احترام العلم يرتبط بالإنتاج الذي يؤدي الى إنتاج التكنولوجيا، والى تراجع حاجاتنا لما ينتجه الغرب والصين وغيرهما. زيادة الإنتاج عندنا تلغي أو تخفض الحاجة الى ما ينتجه غيرنا. لذلك يراد لنا أن نتخصص بالاستهلاك لا بالإنتاج. أموال النفط، ويقال أن لدينا الكثير منها، تنضب بسرعة. لا ننتج سلعاً بها، بل هي للشركات الأجنبية. مجتمعاتنا قائمة على الاستهلاك وحسب. الإنتاج لا مكان له عندنا. التفكير ممنوع. المعنى مفقود. المعنى يكون مع الإنتاج. تزداد الثقة مع الإنتاج. تزداد ثقتنا بأنفسنا مع الإنتاج. تزداد معنوياتنا عندما ننتج؛ نصير أكثر اعتداداً بأنفسنا؛ أكثر شرفاً .
ما يحدث عندنا كنتيجة لتراجع المعنى والمعنويات هو انخفاض مستوى الشرف، شرف المعرفة. وصعود الحاجة الى تعويض ذلك بالوجاهة (وهي غالباً ما تكون كاذبة موهومة) والتي تقتصر على الجلوس في الصف الأمامي تعويضاً عن النزاع الفكري. النفاق هو الفساد الأكبر. هو أن نحاول الظهور على غير ما نحن عليه. هو انتفاخ الذات في حين لا تستحق الذات ذلك. تعويض كاذب عن النقص حين لا يفيد إلا العمل الفكري والإنتاج في مجال العمل واكتساب خبرة في أمور الدنيا.
اكتساب المعرفة الحقيقية لا يكون إلا عن طريق استيعاب العلوم الحديثة لا العلوم الدينية. فهذه تزيدنا جهلاً وتزيدنا استهلاكاً لما نستورد كي تبدو علينا مظاهر الحداثة. لكنها حداثة كاذبة. وهم خادع. نختبىء وراء جهلنا.
لا يتعلّق الجهل بتراثنا. صرنا كذلك بسبب الاستبداد الذي خطط وبرمج وبنى وجوده على الجهل والتجهيل. البحث في العلوم الحديثة يؤدي الى تقويض دعائم الاستبداد. لذلك منعوا علينا وجود مراكز البحث العلمي ومراكز التفكير العلمي. ذلك من أجل هذا الجهل الذي صار مقدسا بفضل الاستبداد السياسي والديني، خاصة الديني.
تمعن الآلات الذكية في تعميق الجهل. تزيل كل المعرفة من الدماغ وتضعها في الذاكرة الآلية. نستعيض بالآلة الذكية (أيفون، أيباد، من مختلف الماركات والمصادر) عن التفكير. جمل قصيرة متقطعة. آراء تنتشر على وسائل الاتصال الاجتماعي. تعبّر عن مواقف ورغبات لا عن تحليل لمجريات الأمور. يختزل العقل عن طريقها. صار الناس مفتونين بوسائل الاتصال الاجتماعي. ولما كانت هذه الوسائل تعبّر عن الرغبات والمواقف وحسب، بجمل قصيرة ومتقطعة، فإنها تمنع التواصل. يتزامن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي مع انحدار الخطاب السياسي. لم يعد الخطاب السياسي ( في حملة الانتخابات هنا وفي العالم) معبّراً عن التفكير المترابط الذي يُقصد منه الحوار ونقاش القضايا باستفاضة وبتفكير متواصل وعقلاني، بل صار جملاً مقطّعة مكرورة، تحمل أبسط المفاهيم. لم تعد المفاهيم العميقة الصعبة واردة. يحتاج الذي يستعمل التويتر، أو ما يشابهه، الى جمل قصيرة. جمل قصيرة تعبّر عن مواقف ومشاعر ليس إلا. التفكير معدوم. الغرائز واضحة. النتيجة فتنة في الإنترنت.
يُقال أن المعنى هو تفسير المجهول بالمعلوم. تعبير تجهل معناه. تفتش في القاموس لتجد تعبيراً مقابلاً، تعبيراً تفهمه وتعلمه. تقتصر وسائل الاتصال على تعابير نعرفها. أنت لا تبحث عن المجهول. لا تتقدم معرفتك؛ بل تزداد جهلاً، ويزداد انعدام الترابط في تفكيرك. الآلة الذكية في جيبك تزوّدك بالمعلومات. دماغك معطّل عن التفكير.
فقدان المعنى والمعنويات سمة العصر في مجتمعنا. شرف الذات مسحوق. شرف المعرفة مفقود. وجاهة الجهل الكاذبة هي المسيطرة. ما من مواطن سياسي أو زعيم سياسي إلا ويستعمل التويتر وأخواته. سننتظر الزعماء عندما يدخلون البرلمان لنسمع خطابهم السياسي. لا نتوقع الكثير. الخراب في العقول حصل. لا نتوقع الكثير منهم. برنامج التجهيل وفقدان المعنى اكتمل وصار يلفّ عقولنا وينفذ إليها ويفرغها.
شرف المعنى والمعرفة هو ما يصنع نهضة الشعوب. نشعر بالتراجع. إحساسنا بالهزيمة واقع عميق. قضايانا الكبرى لم تعد موضع بحث. حتى الاعتقاد بمسلمات الأمة صار في خبر كان. الأمر ليس خيانة كما يشير بعض الجرائد ووسائل الإعلام. الأمر ليس تخليا عن القضايا، بل تركيبة ذهنية فقدت وعيها القديم ولم تنشئ وعياً جديدا. فقدان المعنى يمنعها. أثر الآلة الذكية يمنعها. أنظمة الاستبداد تمنعها.
بمزيد من السرور تسمع أنظمة الاستبداد بانتشار الآلات الذكية (أيفون). هي وسائل مراقبة إضافية. وسائل تزوّد المركز بكل ما يريد أن يعرف عن الفرد، لا عن مكانه وحسب، بل عن أفكاره ومشاعره. انتشار المعلومات عن طريق الأيفون يزيدنا جهلاً (فيما بيننا) ويزيد خضوعنا لنظام الاستبداد. ليست الحياة الخاصة هي المعرضة للرقيب وحسب، بل هي الأفكار والمشاعر واللواعج. صار نظام الاستبداد قادراً على الاستغناء عن التحقيقات في سجون التعذيب. يكفي التنصت على وسائل الاتصال الاجتماعي.
ربما كانت وسائل الاتصال الاجتماعي وسيلة فاعلة في ثورة 2011، لكنها أيضاً وسيلة فاعلة للثورة المضادة.
فقدان المعنى هو في الوقت عينه تراجع المقاومة، مقاومة الاستبداد والقمع والقسر. فقدان المعنى طريق الجهل. الجهل قاعدة الاستبداد.
لا يتعلق الجهل بتراثنا