
ما طار طير وارتفع الا كما طارا وقع
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله إقرارا بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، اختص بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومن على العاصي بقبول توبته، ومد للمسلم عملا صالحا بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع بريته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد ذكرت المصادر التاريخية الكثير عن حادثة البرامكة في العصر العباسي، وتنكيل هارون الرشيد بهم وقتلهم جميعا، ولقد ذكرت المصادر أيضا الكثير عن قسوة الترك، فقيل أنه لما نكب الناس بالبرامكة، وعاش من عاش منهم حتى رأوا سلطان الترك أنشدوا قول القائل ” رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه فإن شدة الأتراك وقسوتهم مكنتهم من أن يقتلوا الخليفة.
ما طار طير وارتفع الا كما طارا وقع
بعد اثنتي عشرة سنة من سلطانهم، وقد أكثر الترك من مصادرة الناس لأموالهم وكان من مصائب الرجل أن يكون غنيا، وقد صادروا الكتّاب، وصادروا الأمراء الكبار، وأخيرا تجرأوا فصادروا أم الخليفة المتوكل لكثرة أموالها، حتى إضطرت إلى الهرب إلى مكة، وكانت تدعو وهي في مكة على التركي الذي سلبها أموالها، وهو صالح بن وصيف التركي، وتقول ” اللهم اخزي صالحا كما هتك سترى وقتل ولدي، وشتّت شملي، وأخذ مالي، وغرّبني عن بلدي” مما لم يفعله ولا بعضا منه الفرس في أيام سلطتهم، حتى إن البحتري لما شاهد قتل الترك للمتوكل خرج هائما على وجهه إلى إيوان كسرى، وفي ذلك إشارة إلى تفضيله حكم الفرس على حكم الترك، وقال قصيدته السينية المشهورة يصرح فيها بأن الفرس ليسوا بقومه، ولكن لهم فضل بما أيدوا من ملكهم وخدموا دولتهم مع أنه ليس من جنسهم.
وعلى العكس من ذلك كان الترك، وإنما دعاه إلى ذلك كما يقول أنه كان يألف الأشراف من كل جنس، ويحب الأصول من كل قوم، يقول ذاك عندي وليست الدار داري بإقتراب منها ولا الجنس جنسي غير نعمى لأهلها عند أهلي غرسوا من ذكائها خير غرس، وأيدوا ملكنا وشدوا قواه بكماة تحت السنور حمس، وأراني من بعد أكلف بالأشراف طرا من كل سنخ وإس، وهكذا شتان بين سلطة العرب في عهد الأمويين، وسلطة الفرس في عهد الدولة العباسية الأولى، وعهد الأتراك في الدولة العباسية الثانية، فحكم البرامكة الذين نكبهم الرشيد لم يعوّض في عدلهم وكرمهم، والمحافظة على الخليفة الذين يعملون تحت سلطانه، وقد ذكر أحد المستشرقين أن عهد الرشيد كان مبدأ إنحطاط الدولة العباسية، وقد فكرت في ذلك، وأطلت التفكير هل هذا صحيح؟ وما هو السبب؟
لأنه لم يذكر سببا، فهل لأنه في عهد الرشيد إنقطعت بلاد المغرب عن المملكة؟ ولكن هذا وحده لا يكفي سببا للإنهيار، وإلا كان خروج الأندلس وهي أعظم من المغرب هي بدء الإنهيار، أو يريد إنتشار اللهو إنتشارا كبيرا كالذي كان عند الرومانيين من أسباب سقوطهم وهذا أيضا غير صحيح فإن اللهو والترف كان حظ الخلفاء، ومن يتصل بهم فقط، أما الشعب كله فأغلبه بائس فقير جاد أو يريد تحقيق قول الشاعر ” ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ” وهذا أيضا غير صحيح لأن عظمة الحضارة في عصر المأمون، كانت أكبر منها في عهد الرشيد، وإنما السبب الذي يجعل هذا الرأي صحيحا هو أنه في عهد الرشيد تجلت العصبيات، وبلغت فيه الذروة، فالأمويون كانوا متعصبين تعصبا عربيا، فالولاة عرب وكل شيء عربي، أما الموالي فأذلاء خافتو الأصوات.
حتى ليظن العربي أن أخاه المولى لا يستحق أن يرث كما يرث، وكان العربي أحيانا لا يريد أن يصلي وراء الإمام المولى، فلما جاءت الدولة العباسية إنتقلت العصبية للعرب إلى عصبية للفرس فكانت التقاليد والأعياد، وغير ذلك فارسية، وإنحط شأن العرب لأن الدعوة العباسية قامت بأهل خراسان فحفظ العباسيون لهم جميلهم، وجاء البرامكة فزادوا هذه العصبية قوة، فهم كانوا ينشرون الثقافة الفارسية، ويؤيدون كل ما هو فارسي، حتى روي أن الرشيد مرة أراد أن يهدم إيوان كسرى فإرتاع من ذلك البرامكة وقال له يحيى ” لا تهدم بناء دار دلّ على فخامته شأن بانيه الذي غلبته، وأخذت ملكه، قال الرشيد “هذا من ميلك إلى المجوس، لا بد من هدمه” فقدر للنفقة على هدمه شيئا استكثره الرشيد فأمر بترك هدمه، فقال له يحيى ” لم يكن ينبغي أن تأمر بهدمه، أما وقد أمرت فليس يحسن أن تظهر عجزا من هدم بناء بناه عدوك” فلم يقبل قوله ولم يهدمه.