الدكروري يكتب عن محاكمة الشيخ ابن الجوزي
بقلم / محمـــد الدكـــروري
ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية أنه كانت هناك محاكمة عقدت بواسط للشيخ ابن الجوزي بسعي الركن عبد السلام إذ ادعى عليه بتصرف في وقف مدرسة جده لما تولى إدارتها، فحكم عليه بالسجن ثم أفرج عنه سنة خمسمائة وخمس وتسعين من الهجرة، وقد بقي في المطمورة بسجن واسط خمس سنين وكانت نقمة الفقهاء وأنصار الفرق شديدة على كل من يحاول الاجتهاد أو يشتغل بعلوم الأوائل، وقد يتواطؤ هؤلاء الفقهاء مع السلطة السياسية التي كانت تقوم بتسليط العقوبات أو الطرد من البلاد، ومن ذلك خروج سيف الدين الآمدي من العراق إلى الشام، ثم إلى مصر سنة خمسمائة واثنين وتسعين من الهجرة، لأنه متهم بفساد العقيدة ومذهب الفلاسفة لما أظهر من علوم الأوائل.
ومرة أخرى انتقل خفية من مصر إلى الشام ولم يكن حظه سعيدا هنالك، حيث عزل عن التدريس وأقام مختفيا في بيته حتى توفي، وقد حدث هذا في المشرق وأما في المغرب فقد عاش ابن رشد المولود سنة خمسمائة وعشرين من الهجرة، والمتوفي سنة خمسمائة وخمس وتسعين من الهجرة، محنة شديدة فأحرقت كتبه وأخرج من قرطبة، وأما فخر الدين الرازي فطرد من بلاد كثيرة بسبب آرائه الفلسلفية والدينية لأنها ليست متحجرة ولا مقلدة، كما كان حال الفقهاء وأشباه العلماء في عصره، وإنما كان مجتهدا ومجددا في العلوم العقلية والنقلية معا، وكان جريئا ومدافعا بقوة عن آرائه، ويذكر المؤرخين أن أعظم فتنة وقعت له سنة خمسمائة وخمس وتسعين من الهجرة بهراة.
وقد قيل لما بنى ابن أخت غياث الدين مدرسة له نزل ذلك كالصاعقة على الكرامية، وفي راوية أخرى أن الفتنة حصلت بسبب مناظرة الرازي لابن القدوة، وهو مقدم الكرامية ولم تخمد إلا بإخراج الرازي من هراة، وقد استدل المؤرخون على شجاعة الرازي، وجرأته في الوعظ بأنه قيل كان الرازي يعظ في داره، وقد زاره السلطان شهاب الدين الغوري فقال له يا سلطان لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس، وقد انتشر شرور العامة عندما وجدت لنفسها قوة بالاعتماد على سلطة الساسة وسلطة الفقهاء، وهي قوة كانت في بعض الأحيان تستخدمها للتمرد على السلطتين معا، كما هو الشأن حين عجز غياث الدين الغوري على تسكين الكرامية، إلا بعد أن وعدهم بإخراج الرازي.
وأيضا حين انقلب الناس كشهود والفقهاء كقضاه على ابن الجوزي، وهكذا شاع اضطهاد العلماء في هذا العصر، أمثال الرازي والسهروردي، وابن رشد والسيف الآمدي وغيرهم، وهذا يدل على سيطرة النزعة التقليدية على الحياة الاجتماعية، وعدم احترام قواعد الحوار وحرية التفكير السائدة في القرون السابقة.