الدكروري يكتب عن الحكمة ممن شرع لهم الإبتداء بالسلام
بقلم / محمـــد الدكـــروري
لقد أبرز العلماء الحكمة في الشريعة الإسلامية ممن شرع لهم الإبتداء بالسلام، فقال ابن العربي أنه حاصل ما في الحديث النبوي الشريف هو أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل، وقال المهلب تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع، وقال المازري أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا.
فصار للقاعدة مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعدة يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، وأما تسليم الصغير على الكبير فكأنه لمراعاة السن، وهو أمر معتبر في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي، كأن يكون الأصغر أعلم مثلا، فبه تظر ولم أر فيه نقلا، والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر كما تقدم الحقيقة على المجاز، ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا، فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير، ولو خالف الكبير فسلم على الصغير.
أو سلم الماشي على الراكب، أو سلم الكثير على القليل، أو سلم القاعد على الماشي فلا يلحق ذاك المخالف إثم، ولكنه تارك للأولى، وقال أبو سعد المتولي لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال والوارد يبدأ بكل حال، وقال المازري هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزيئات تخالفها، لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب ولا يلزم من ترك المستحب الكراهية بل يكون خلاف الأولى فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة.
إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا، وقال الكرماني لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم، والله أعلم، وأما عن الأدب الثاني من آداب السلام هو عدم تخصيص أحد من الجالسين بالسلام فإن هذا من شأنه يوغر صدور الجالسين.
ويزرع البغض والحقد، وقال أبو سعد المتولي يكره إذا لقى جماعة أن يخص بعضهم بالسلام، لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة، وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام.