مقالات

معبد المياه بزغوان: عظمة الماء ومهابة الرومان

جريدة موطني

---
هنا نابل بقلم المعز غني
معبد المياه بزغوان: عظمة الماء ومهابة الرومان

في حضن جبل زغوان ، حيث تلتقي الطبيعة بالأسطورة ينتصب
" معبد المياه " كصرح صامت يحكي بصخور مرصوصة قصّة حضارة عظيمة مرّت من هنا من مدينة زغوان ، ذات زمن روماني مجيد.
كأنّ الجبل نفسه قد إنحنى ليقدّم هديته للناس : ماءً يتفجّر من أعماقه ، وحضارة تتسلّل عبر حجارة المعابد والأقواس والأعمدة.

بُني هذا المعبد في بدايات القرن الثاني للميلاد ، في عهد الإمبراطور - هادريان - وكان أكثر من مجرد منشأة مائية بل هو معبد يقدّس عنصر الحياة ، حيث إمتزجت الهندسة بالروح والفن بالخدمة العامة.
من هناك كانت تبدأ قناة مائية شاهقة تمتد على مسافة تقارب 132 كيلومترًا ، في رحلة شاقّة نحو قرطاج لتروي عطش واحدة من أبهى حواضر المتوسط.

في حضن الطبيعة ، حيث تهمس الأشجار بلغات لا تفهمها سوى الأرواح الصافية ، يقف "معبد المياه" شامخًا لا بأعمدته ولا بأحجاره ، بل بسكونه العميق وتدفقه الأبدي.
هو ليس معبدًا تُضاء فيه المشاعل أو تُرفع فيه الصلوات ، بل معبد تُغتسل فيه الأرواح ، وتُستعاد فيه ذاكرة الطهر الأولى.

هناك حيث تنبع المياه من صخور الزمن تسمع أنين التاريخ وهمس العصور القديمة كأن كل قطرة تسقط كانت شاهدة على ولادة حضارة أو إنطفأ حلم ، في " معبد المياه " تنكسر صلابة العالم أمام رقة الماء ، الجداول تسير في إنسياب يشبه الحكايات القديمة ، والحصى تحتها كأنها أحرف مخبوءة في كتاب سرّي لا يقرأه إلا من صفا قلبه.

الناس يأتون إليه لا لأداء طقس ، بل للبحث عن ذواتهم.
يجلسون على ضفافه ، ينصتون ، يتأملون ، يذوبون في صمت الماء الذي لا يحتاج إلى ترجمة.
كم من عاشق نسى وجعه عند نبع صافٍ ، وكم من شاعر كتب بيته الأجمل عند خرير جدول هادئ ...!

الماء في هذا المعبد لا يروي الظمأ فحسب ، بل يروي الحنين ، يغسل الذاكرة ، ويفتح في القلب نوافذ تطلّ على عالم أكثر صفاءً. ولعل أعظم أسرار معبد المياه أنه يُذكّرنا أننا نحن أيضًا كالماء: نمضي ، نتحوّل ، ونتجدد رغم كل ما نحمله ...

معبد المياه ليس مكانًا ، بل حال هو صورة من تلك الأمكنة التي لا تُرسم على خرائط ، بل تُرسم في الروح.
وربما، حين نغلق أعيننا ونصغي لصوت الماء بداخلنا ، نكون قد دخلنا المعبد ولو للحظة.
تخيّل المشهد في ذاك العصر : الرهبان الرومان يصعدون درجات المعبد ، يقدّمون قرابينهم لآلهة الماء في معمار تتراقص فيه الأعمدة الكورنثية بترفٍ كلاسيكي وأصوات المياه تنساب في الأقنية الحجرية ، كأنها تراتيلٌ مقدّسة.
لم يكن المعبد مجرد منشأة ؛ بل كان معبداً فعلاً يجمع بين الطقوس الدينية والنفع العملي ، يشهد على وعي الرومان بأهمية الماء وقدرتهم على تطويعه دون أن يُهينوا قداسته.

واليوم ، كان لي شرف زيارة هذا المعلم التاريخي ضمن رحلة ترفيهية وسياحية إلى مدينة زغوان من تنظيم الفرع الجهوي بنابل لودادية أعوان وزارة العدل ⚖️ بصفتي عضو الهيئة المديرة مكلف بالاعلام والثقافة والترفيه ، حيث يقف الزائر أمام هذا المعبد وقد علاه الزمن ببعض الغبار ، لكنه لا يزال شاهداً بل معلّماً صامداً ، على ما كانت عليه زغوان من رفعة ومكانة.
ترى في ظلاله حضارة أحسنت البناء والذوق ، وحملت إلى قرطاج ماء الحياة من قلب الجبل.
وكما جاء في القرآن الكريم بعد بإسم الله الرحمن الرحيم
وجعلنا من الماء كل شيء حي .
صدق الله العظيم

معبد المياه ، إنه أكثر من مجرد أثر تاريخي ، إنه قصيدة حجرية تروي قصة الماء والإنسان ، وعلاقة الرومان المقدّسة بما ينعش الأرواح قبل الأجساد ../.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى