الأم الصالحة.
بقلم عبدالحميد أحمد حمودة
كان لرجل أربعة أبناء، واحد من زوجته الأولى وثلاثة من زوجته الثانية. زوجته الأولى ابنة عمه وكانت تحبه كثيرا، لكن بعد عدة سنوات انفصلا بناء على رغبتها وطلبها. بعد الطلاق، تزوج من امرأة أخرى.
ظلت الزوجة الأولى بعد الانفصال، في المنزل القديم الذي كان يقع بجوار قطعة أرضية صغيرة يملكونها. وكانت الأم تعيش هي وابنها على معطيات هذه الأرض التي كانت مصدر رزق لهما، دون اللجوء إلى أي شيء آخر أو طلب المعونة من الأب. عندما كبر ابنها وتخرج من الجامعة وحصل على وظيفة، توفي الأب وترك وراءه ميراثا كبيرا جدا يتكون من العديد من الأراضي والعقارات.
وعندما قسمت التركة على أبنائه، أظهرت الزوجة الثانية أوراقا تفيد بأن الأب باع أراضيه وعقاراته منذ سنوات عديدة ومن بين المبيعات قطعة الأرض التي تقتات منها الزوجة الأولى وابنها. ابتسمت هذه الأخيرة وقالت بثقة كاملة:
ـ” هذه الأرض وما عليها ورثتها من والدي ولا حق لزوجي السابق فيها قانونا، وهذا دليل على أن جميع العقود غير صحيحة. لكن اطمئني لا نريد من هذا الإرث شيئا، احتفظي به لك ولأبنائك.”
وقف الابن مندهشا مما حدث فقال:
ـ” كيف ذلك؟ هذا حقي ولن أتنازل عنه أبدا.
ـ دعنا نذهب من هنا، لا نريد منهم شيئا ولا تعصاني.”
عادا إلى منزلهما فقال لها ابنها غاضبا:
ـ” كيف تريدينني أن أسمح لهم في حقي من الميراث، بعد كل ما فعلوه؟ أنت لا تريدين ذلك، لكن أنا أريده فهو حلالي شرعا.
ـ لقد ربيتك منذ صغرك بمال حلال حتى كبرت وتخرجت، والآن أطلب منك طلبا واحدا وهو أن تسمع كلامي ولا تعصاني حتى لا أغضب منك وتنعم مني بالرضا دائما.”
كتم غضبه بداخله، ولم ينبس ببت شفة. لاحظت الأم ذلك فقالت:
ـ” اعلم يا بني أني لا أتمنى لك الا كل خير، أسأل الله أن يرضى عنك ويبارك لك في كل شيء.
ـ أخبريني لماذا كل هذا حتى يرتاح قلبي.
ـ انس كل شيء وسيكون قلبك مرتاحا وأيامك سعيدة.”
مرت الأيام والسنوات ولم تهدأ النار التي بداخله ولم يكشف ذلك لوالدته، خوفا من عصيانها لأنها هي التي تحملت عبء تربيته وتحملت الكثير من أجله.
ذات يوم رأى فتاة جميلة جدا من العائلة و أراد الزواج بها، لكنه لم يستطع ذلك لأن شقيقه من أبيه سبقه وطلب من والدته أن تخطبها له. قابل والد الفتاة هذا الطلب بالرفض المطلق، وبأنه لن يقبل بأي واحد منهم زوجا لابنته. عندما علمت أمه بما حدث، قالت له:
ـ” هيا بنا نذهب لخطبة الفتاة التي أعجبتك.
ـ كيف؟ ان والدها قال بأنه لن يزوجها لأي أحد منا.
ـ نتوكل على الله نذهب ثم نرى ما سيحدث.”
تفاجأ الابن جدا من موقف الأب تجاههما.
أوصى الأب ابنته بأن تبر بهذه الأم، وتعاملها معاملة حسنة وتخدمها على الدوام.
بعد أيام من وفاة الزوجة الثانية، تشاجر اثنان من أبنائها على قطعة أرض فقُتل احدهما والآخر سجن. لم يبق الا سوى الأخ الأصغر الذي كان فاسدا أخلاقيا ومدمنا على المخدرات، وبدأ يبيع كل ما يملك.
ذهب ابن الزوجة الأولى الى أمه ثائرا على ما تسبب فيه أخوه من أبيه في ضياع الميراث.
ـ” لقد فقدت حقي وأنا أرى إسراف وتهور أخي، دون أن أحرك ساكنا.
ـ الحرام لا يدوم يا بني، وهذا هو ما كنت أخاف عليك منه. الآن سأخبرك بالحقيقة ولماذا انفصلت عن والدك. لقد أغواه الشيطان واتبع طريقه، فاستولى على أراضٍ لا حق له فيها بالباطل، الكذب والسرقة.
نصحته كثيرا بأن يتجنب الحرام من أجلك، لكنه لم يرتدع. والآن رأيت الخراب الذي حل بعائلته ولم يبق لهم من كسب الحرام شيء.
ـ الآن ارتحت واطمأن قلبي. الحمد لله على أعظم رزق حلال ورثته من هذه الدنيا وهو أم صالحة.”