اخبارمقالات

نفوس ضائعة

جريدة موطني

نفوس ضائعة

بقلم الكاتبة د./ لولوه البورشيد

نفوس ضائعة

جريدة موطني
في زوايا المدن الصاخبة، وتحت أضواء الشوارع الباهتة، تتراقص هذه النفوس لا تجد لها موطنا. إنها أرواح تاهت بين أحلامٍ تلاشت وواقع أثقل كاهلها، فصارت كالأوراق المتساقطة في مهب الريح، لا تعرف أين تستقر. يمرون بيننا كظلال صامتة، يحملون في أعينهم نظراتٍ تحكي قصصًا لم ترو بعد، قصصا عن أمل خاب، وعن حب تلاشى، وعن طريقٍ ضلوا في منتصفه.
تلك النفوس ليست بعيدة عنا، بل ربما تكون جزءًا منا.كسبيل مثال قد تكون تلك الفتاة التي تقف على ناصية الطريق، تنتظر حافلة تأخرت، بينما عقلها يجوب عوالم أخرى، تتساءل عن معنى وجودها. أو ذلك الرجل العجوز الذي يجلس على مقعد متآكل في الحديقة، يحدق في الفراغ، وكأنه يبحث عن شباب سرقه الزمن. أحيانًا، تكون النفوس الضائعة هي نحن أنفسنا، حين نفقد البوصلة التي تهدينا إلى ذواتنا الحقيقية.
ما الذي يضيع النفوس؟ هل هي الحياة بتعقيداتها، أم الخيبات التي تتراكم كالغبار على القلوب؟ ربما يكون السبب هو الوحدة، ذلك الشعور الذي يتسلل خفيةً إلى الروح، فيجعلها غريبة حتى عن نفسها. أو ربما هو السعي وراء أحلامٍ كبيرة، تتحطم على صخور الواقع، فتترك خلفها أنقاضا من الأمل المبعثر.
لكن، هل حقا ضاعت تلك النفوس إلى الأبد؟ أم أنها تنتظر لحظة تضيء فيها شمعة صغيرة في ظلامها؟ ربما تحتاج إلى يد تمتد إليها، أو كلمةٍ طيبة تُعيد إليها الدفء. ففي كل نفس ضائعة، هناك بذرة أمل تنتظر من يرويها، لتعود إلى الحياة من جديد. إنها دعوة لنا جميعا، أن ننظر حولنا، أن نمد أيدينا، وأن نكون الضوء الذي يهدي تلك النفوس إلى شاطئ الأمان. ففي النهاية، كلنا معرضون للضياع، وكلنا بحاجة إلى من يذكرنا بأن الطريق لا يزال موجودًا، حتى وإن غاب عن أعيننا للحظات.

ايضا في خضم الحياة المتسارعة، حيث يمتزج ضجيج الآلات بأصوات البشر، تتوارى تلك النفوس خلف ستار الصمت. تبحث عن معنى أو هدف، فلا تجد سوى صدى أسئلتها يتردد في الفراغ. تراهم في عيون المارة، في خطواتهم المترنحة، أو في همهماتهم التي تخفي أكثر مما تعبر. إنهم ليسوا غرباء تماما، بل قد يكونون مرآة تعكس جزءا منا لم نجرؤ على مواجهته.

و ليست وليدة الفقر أو اليأس وحدهما، بل قد تكون ثمرة أحلامٍ كبيرة أجهضتها الحياة، أو علاقاتٍ انهارت تحت وطأة الخيانة والإهمال. إنها تلك الروح التي كانت يومًا مشتعلة بالحماس، فأطفأتها رياح الواقع الباردة. كالسفن التي فقدت مراسيها، تتقاذفها أمواج الحياة دون أن تجد ميناءً ترسو فيه. ومع كل موجة، تبتعد أكثر عن ذاتها، حتى تصبح غريبة في جسدها الذي تحمله.

لكن الضياع ليس نهاية المطاف. ففي كل نفس تائهة، هناك شرارة خافتة تنتظر من يكتشفها. قد تكون كلمة تشجيع، أو نظرة اهتمام، أو لحظة تأمل تعيد للروح توازنها. الضياع لا يعني الغياب التام، بل هو حالة مؤقتة، جسر بين ما كان وما يمكن أن يكون. وإذا كان الإنسان قادرًا على الضياع، فهو أيضًا قادر على العودة، على رسم طريقٍ جديد بألوان الأمل.

إن النفوس الضائعة ليست عبئا على المجتمع، بل دعوة للتأمل والمسؤولية. إنها تذكير بأننا جميعا عرضة للتيه في لحظة ما، وأن الرحمة والتكاتف هما السبيل لإنقاذ من تاهوا. ففي كل قلب ضل الطريق، هناك حياة تنتظر من يعيدها إلى النور، وفي كل يد تمتد، هناك فرصة لاستعادة ما ضاع بالأمل والتفاؤل تحقق المستحيل للحصول على أفضل ما تتمناه .

نفوس ضائعة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى