
نفيسة البيضا: سيدة على عرش الإنسانية
محمود سعيد برغش
تعد “نفيسة البيضا” واحدة من الشخصيات التاريخية البارزة التي تركت بصمة عميقة في تاريخ مصر، وتعد مصدر إلهامٍ للكثيرين بما حملته من شجاعة، وحكمة، وعطاء مستمر رغم الظروف القاسية التي مرت بها. في هذا المقال، نعرض حياة هذه السيدة الاستثنائية التي كانت أم المماليك وأثرت في قلوب المصريين.
بداية رحلة نفيسة البيضا
وُلدت “نفيسة البيضا” في فترة كانت فيها مصر تحت سيطرة الحكم المملوكي، وُصفت بأنها كانت بيضاء البشرة جميلة الملامح، مما جعلها تحمل هذا اللقب الذي لطالما ألهب خيال المصريين. عُرفت بذكائها، وجمالها، وحضورها القوي. جاء بها إلى مصر في القرن الثامن عشر كجارية شركسية، لتصبح فيما بعد سيدة ذات تأثير كبير في تاريخ البلد.
عُرفت نفيسة في البداية باسم “نفيسة جارية”، حينما اشتراها “علي بك الكبير”، أحد أقوى رجال مصر في ذلك الوقت. وكان علي بك يسعى للاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية، وقد كان طموحه كبيرًا لدرجة أنه خطط لتتويج نفسه ملكًا على مصر. ومع ذلك، لم تكتمل طموحاته بسبب مؤامرة عثمانية ألقت به في التهلكة، لينتهي به المطاف إلى الهزيمة على يد صهره “محمد بك أبا الذهب”.
تحولات الحياة
بعد مقتل “علي بك”، أصبحت “نفيسة البيضا” أرملة. ومع الوقت، تزوجت من “مراد بك”، أحد أمراء المماليك. ومرت بفترة من التحديات السياسية، لكنها لم تتخلى عن طموحاتها وأحلامها. كانت نفيسة تسعى دائمًا إلى استثمار ثروتها وتحقيق العيش الكريم للآخرين، خاصة الطبقات الفقيرة.
المشاريع الخيرية والإنسانية
في الفترة التي شهدت تقلبات سياسية، برزت شخصية نفيسة البيضا في مجال العمل الخيري والتجاري. فقد أسست “وكالة” تجارية ضخمة بالقرب من “بوابة المتولي”، وهو مشروع ضم عدة عناصر اجتماعية وخيرية. فقد أضافت إلى الوكالة “ربعًا” خصصته لإيواء فقراء الحرفيين، كما أنشأت سبيلًا لتوزيع الماء ورفعت مستوى التعليم للأطفال الأيتام من خلال “كُتاب” لتعليم القرآن الكريم.
بفضل هذه المشاريع الإنسانية، أصبح اسم “نفيسة البيضا” مرتبطًا بفعل الخير والإحسان، حيث كانت تساند الفقراء والمحتاجين، وتسعى بكل قوتها لجعل حياتهم أكثر سهولة ويسر.
تحديات الاحتلال الفرنسي
عندما اجتاحت جيوش بونابرت مصر عام 1798م، كانت نفيسة البيضا في مواجهة مع الاحتلال الفرنسي، وواجهت ضغوطًا شديدة، خاصة بعد فرار زوجها مراد بك إلى الصعيد. في تلك الفترة، أظهرت نفيسة شجاعة وصمودًا استثنائيًا. فقد سمحت للعسكريين الفرنسيين الجرحى بتلقي العلاج داخل قصرها، مما أكسبها احترام القوات الفرنسية، رغم محاولات بونابرت لتقويض ثروتها وسمعتها.
في مواجهة التحديات، دفعها الظروف إلى رهن مصاغها وتوفير الغرامات لإطلاق سراح حريم المماليك الذين تم القبض عليهم، مما يثبت مرة أخرى أن نفيسة لم تكن مجرد سيدة ثرية، بل كانت رمزا للكرامة والمروءة.
النهاية
رغم أن نفيسة البيضا نجحت في تجاوز محنة الاحتلال الفرنسي، لم تكن حياتها خالية من المعاناة. بعد وفاة زوجها، مراد بك، وعودة الفرنسيين إلى وطنهم، تعرضت لضغوط من الوالي العثماني “أحمد باشا خورشيد” الذي صادر ممتلكاتها. ومع ذلك، كانت نفيسة تظل قوية، محاربة الظروف، لكنها ماتت في النهاية فقيرة في عام 1816م.
رغم ذلك، تركت نفيسة البيضا إرثًا لا يُنسى. فقد كانت تتمتع بثقافة عالية، وحنكة اجتماعية، وكرم لامحدود. وصار مشروعها المعماري المتمثل في “السكرية” نموذجًا رائعًا للعمارة العثمانية المتأخرة، ما زال شاهدًا على تأثيرها الكبير في التاريخ المصري.
نفيسة البيضا: سيدة على عرش الإنسانية
الخاتمة
إن حياة “نفيسة البيضا” هي قصة من الصمود والتحدي، امرأة حاربت ضد الظلم، ولم تتخلَ عن إنسانيتها وأهدافها النبيلة. هي سيدة صنعت لنفسها مكانة في قلوب المصريين، ورغم الظروف التي مرّت بها، كانت تظل رمزًا من رموز الكرامة الإنسانية والعطاء اللامحدود.