هل التاريخ يعيد نفسه فى غزة؟
بقلم / اسلمان فولى
في عالمٍ يُفترض أنه تعلّم من مآسيه، لا يزال التاريخ يعيد نفسه، لا كدرسٍ مستفاد، بل ككابوسٍ متكرر. ما حدث في البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي من تطهيرٍ عرقي، وحصارٍ دموي، وانهيارٍ إنساني، يتكرر اليوم في غزة، تحت أعين العالم، وبصمتٍ دوليٍ يكاد يكون تواطؤًا. وبين الأمس واليوم، تتشابه الصور، وتتوحد الصرخات، ويُطرح السؤال المرير: هل الإنسان حقًا يتعلم من التاريخ، أم أنه يكتفي بتجاهله؟
البوسنة والهرسك: جرح أوروبا المفتوح
في عام 1992، اندلعت الحرب في البوسنة والهرسك بعد تفكك يوغوسلافيا، لتتحول إلى واحدة من أكثر النزاعات دموية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الحرب ذات طابع عرقي وديني، حيث استُهدِف المسلمون البوشناق من قبل القوات الصربية، في حملة تطهيرٍ ممنهجة شملت القتل الجماعي، والاغتصاب، والتهجير، والحصار.
مجزرة سربرنيتسا عام 1995، التي راح ضحيتها أكثر من 8000 رجل وصبي مسلم، كانت ذروة هذا الجنون، ووصمة عار في جبين الإنسانية. ورغم وجود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، لم يُمنع وقوع المجزرة، بل وُثّقت مشاركة بعض الجنود الدوليين في غضّ الطرف عنها.
غزة: جرح مفتوح في قلب الشرق الأوسط
اليوم، في غزة، تتكرر المأساة. أكثر من مليوني إنسان يعيشون في بقعة صغيرة محاصرة منذ سنوات، تُقصف بلا هوادة، وتُمنع عنها المساعدات، وتُستهدف فيها البنية التحتية، والمستشفيات، والمدارس، وحتى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة. الأطفال يُقتلون، والنساء يُدفنّ تحت الأنقاض، والعالم يكتفي بالتصريحات الدبلوماسية.
العدوان على غزة لا يُمكن فصله عن سياقٍ أوسع من الاحتلال، والاستيطان، والتمييز، والتجويع الممنهج. إنه ليس مجرد رد فعل عسكري، بل سياسة مستمرة تهدف إلى كسر إرادة شعب، ومحو هويته، وتفريغ أرضه.
تشابهات مؤلمة: بين سربرنيتسا وغزة
• التطهير العرقي: في البوسنة، استُهدف المسلمون بسبب هويتهم الدينية. في غزة، يُستهدف الفلسطينيون بسبب هويتهم الوطنية. في الحالتين، يُنظر إلى الضحايا كـ”تهديد ديموغرافي”، ويُعاملون كأرقام قابلة للإزالة.
• الحصار والتجويع: في سربرنيتسا، حُوصرت المدينة ومنع عنها الغذاء والدواء. في غزة، يُفرض حصار منذ أكثر من 15 عامًا، يُمنع فيه دخول المواد الأساسية، وتُغلق المعابر، وتُقنن الكهرباء والماء.
• الصمت الدولي: في البوسنة، استغرق المجتمع الدولي سنوات ليتدخل، وبعد فوات الأوان. في غزة، تُعقد الاجتماعات، وتُصدر البيانات، لكن لا يُتخذ أي إجراء فعلي لوقف المجازر أو رفع الحصار.
• الشيطنة الإعلامية: في الحالتين، يُستخدم الإعلام لتبرير القتل، وتصوير الضحايا كـ”إرهابيين” أو “متطرفين”، مما يُمهّد الطريق لتقبل العنف ضدهم.
العدالة المؤجلة: هل تُحاسب الجرائم؟
بعد انتهاء الحرب في البوسنة، أُنشئ “المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة”، وحوكم بعض المسؤولين عن الجرائم، مثل رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش. لكن العدالة جاءت متأخرة، بعد أن فُقدت آلاف الأرواح، وتفككت المجتمعات، وتشوّهت الذاكرة.
في غزة، لا تزال العدالة بعيدة المنال. رغم وجود تقارير دولية توثق الانتهاكات، ورغم مطالبات منظمات حقوق الإنسان، إلا أن المحاسبة تُواجه بجدارٍ من الحصانة السياسية، والدعم الدولي غير المشروط لبعض الأطراف. وهكذا، يُعاد إنتاج الإفلات من العقاب، ويُشجّع تكرار الجرائم.
الإنسانية في اختبار مستمر
ما يحدث في غزة ليس مجرد قضية فلسطينية، بل اختبارٌ للضمير الإنساني. كما كانت البوسنة اختبارًا لأوروبا، فإن غزة اليوم اختبارٌ للعالم بأسره. هل نسمح بتكرار المجازر؟ هل نُبرر القتل الجماعي؟ هل نُصنّف الضحايا وفقًا لهويتهم؟
الإنسانية لا تُقاس بالبيانات السياسية، بل بالفعل. وإذا لم يتحرك العالم لوقف ما يحدث في غزة، فإنه يُعيد إنتاج ذات الأخطاء التي ارتُكبت في البوسنة، ويُثبت أن التاريخ لا يُعلّم، بل يُنسى.
دروس من الماضي: هل يمكن أن تُنقذ الحاضر؟
من البوسنة، تعلمنا أن الصمت يُقتل، وأن الحياد في وجه المجازر هو مشاركة ضمنية. تعلمنا أن العدالة يجب أن تكون فورية، وأن الحماية الدولية ليست ترفًا بل ضرورة. هذه الدروس يجب أن تُطبّق اليوم، لا أن تُعلّق على جدران المتاحف.
غزة تحتاج إلى حماية دولية، إلى رفع الحصار، إلى وقف العدوان، إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم. تحتاج إلى أن يُنظر إليها كقضية إنسانية قبل أن تكون سياسية، وكحقٍ في الحياة قبل أن تكون ملفًا تفاوضيًا.
خاتمة: لا تكرّروا سربرنيتسا
في كل مرة يُقتل فيها طفل في غزة، يُفتح قبرٌ جديد في ذاكرة الإنسانية. وفي كل مرة يُبرر فيها القصف، يُعاد مشهد البوسنة، بصيغة جديدة. التاريخ لا يعيد نفسه لأن الأحداث تتشابه، بل لأن البشر يرفضون التعلم.
إذا كان العالم قد قال “لن تتكرر سربرنيتسا”، فعليه أن يُثبت ذلك بالفعل، لا بالكلمات. غزة اليوم هي سربرنيتسا العصر، والسكوت عنها هو خيانة للذاكرة، وللإنسان، وللحق.