قصة

ويبقي الأثر”

جريده موطني

“ويبقي الأثر”

 

بقلم علياء عبدالله.

ويبقي الأثر"

هناك و في قرية من قري صعيد مصر

ولد”عبدالله” ذلك الفتى المميز منذ نعومة أظافره، رحلة تعليمه مزيج بين الشقاء والشغف معاً لطلب العلم،فهو قدوة لمن أراد أن يقتدى ، كان شديد التعلق والحب والبر لوالديه ولأخوته، وكان شغوفاً لطلب العلم، ولكن ؛ أثناء هذه الفترة لم يكن التعليم أمراً سهلاً ،فأقرب مدرسة كانت تبعد عن مكان سكنه كثيراً،

ولكن حرص أهله على الاهتمام بشغفه ، وبالأخص والدته المكافحة الصبورة التى لعبت دور الأم والأب معاً ،وذلك لغياب الأب الإضطراري حيث كان يعمل بالمدينة وقتها ويرجع إليهم من حين لآخر، كانت تُعد له طعامه بكل حب، وتضعه في سَبت من الخوص، وتحيك له شنطته القماش ليضع بها كتبه، ويذهب عبدالله ذو السبعة أعوام لمحل إقامة الطلبة مع أصدقائه الصغار بجوار مدرسته، ويرجع إلي أهله فى نهاية الأسبوع،

كانت الإضاءة فى ذلك الحين لم تكن بالقدر الكافي لتضيء الطريق للمارة،فلقلما رأيت عموداً واحداً على الطريق بأكمله!

طفل لم يتجاوز الثامنة أعوام من عمره يقطع كل هذه المسافة فى الظلام لطلب العلم أليس هذا شيئاً عظيماً!

لم تكن الحياة وقتها ممهدة له كما فى يومنا هذا،

فظلام القرية الدامس وعدم وجود وسيلة مواصلات لم يمنع عبدالله ذلك الطفل الطموح أن يكمل ما بدأه،

وفى ليلة من ليالي الشتاء و بالتزامن مع نهاية الأسبوع وإذا بعبدالله ماشياً فيفاجيء بوجود أكثر من كلب على الطريق، وبدأوا بالهجوم عليه وبالنباح ، تمالك عبدالله الطفل الشجاع نفسه وأخذ ينأي بعيداً عنهم ، ويدافع عن نفسه بما يمتلكه، لا يمتلك الصغير عصا أو حجر، وإنما بشنطة يده وسَبت والدته الخوص، فيدفعه يمينا ويسارا محاولاً إبعادهم عنه ليسمع صوتا من بعيد باللهجة الصعيدية يقول:

 

“ويبقي الأثر”

“خُد ياض تعالَ لچاى

إيه اللى چابك الساعة دى لحالك؟!! ”

 

وأخذه معه على حماره متسائلاً بتعجب: ما معاكش حد؟!

 

فأجابه عبدالله:

“لأ،بس اختى هتتلجاني فى آخر الجسر”

 

وإذا بزينب أخت عبدالله الكبرى واقفة في نهاية الجسر تنتظر أخوها بلهفة المشتاق، خائفة على ذلك الصغير من أن يمسه أذى،وما إن رأته قادماً على مرمى بصرها إلى أن اطمئن قلبها الدافيء على أخيها، ليقضي معهم عبدالله عطلة نهاية الأسبوع، ويرجع من جديد ليواصل رحلته التعليمية مع أقرانه،

لم يقصر والده أو والدته فى تعليم ابنهم النجيب أبداً، حتى أن فى فترة تعليمه وتزامناً مع وجود والده فى المدينة والتى كان قديماً يطلق عليها “مصر” وكل من هو بالصعيد يعرف ذلك جيداً، يعرف أنهم عند قولهم مصر يقصدون “القاهرة”، كان كتاب “الأضواء” قد نزل لتوه حديثاً بالأسواق ،ويحكى عبدالله مبتسماً بأسنانه ناصعة البياض اللامعة،

أنتم على أيامكم لو فتحتوا الراديو هتلاقوه بيشرح،والتلفزيون بيشرح،والنت بيشرح والكتب الخارجية بتشرح!

إيه حجتكم يا جيل يا متدلع أنتم؟!

أنا اتعمل لي فرح لما أبويا جابلي كتاب الأضواء، واستلفه منى كل زملائي وكإن معايا كنز!

 

هكذا مرت رحلة عبدالله التعليمية بين مكابدة لطلب العلم وطموح لا حدود له ،حتى وصل إلي مرحلة الثانوية، كان طموح عبدالله أن يُدافع عن كل مظلوم حوله وينتصر له، لذلك كان هدفه كلية الحقوق،و بالرغم من أن درجاته وقتها كانت تؤهله للإلتحاق بأكثر من كلية، إلا أنه كان له هدف فاختار أن يصيبه، ودخل الكلية وتفوق بها، ولكن عندما تخرج من الكلية وصدمه الواقع علم أن هذه المهنة إن لم تتق الله بها لوقعت فى الشبهات، فاختار أن يعمل بالشؤون القانونية بدلاً من الترافع بالمحاكم والعمل بمكاتب المحاماة، درءاً للشبهات، فقد كان مثالاً فى تقوى الله سراً وعلانية،

هكذا كان يقص عبدالله قصته هذه على ابنته من حين لآخر وفى كل مرة تسمعها منه بحب دون ملل أو كلل وكأنها تسمعها لأول مرة، لم تكن فقط هذه القصة فحسب التى قصها عبدالله على أبنائه فحياته كانت مليئة بالحكايات والحكمة،

كان ابناً باراً وأباً رائعاً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ومصباحاً مضيئاً لكل من حوله،

نعم توفى عبدالله ولكن؛ ترك أثر ذكرياته باقٍ فى قلوب أبنائه، وفراغاً فى قلوب أحبته أجمع يأبي الزمن أن يملؤه، فحياة عبدالله وخِصاله إذا ما دونت فلن تكفيها الأبجدية كلها وإن اجتمعت ،وإذا تم تدوينها فلن تكفيها أيضاً مئات الكتب.

 

 

 

لله در الشافعى حين قال:

 

‏قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم

وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ.

 

سلام الله على كل مجتهدٍ يتحدى الظروف لتحقيق هدفه رافعاً شعار “التقوى”

وعليك من الله رحمات إلى يوم يبعثون يا عبدالله.                                                                                                        بقلم علياء عبدالله                                                                                                                        “ويبقي الأثر”                 

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار