الرئيسيةقصةليلى ” باب لا يراه أحد “
قصة

ليلى ” باب لا يراه أحد “

ليلى ” باب لا يراه أحد “

بقلم: طارق غريب 

 

لم تكن ليلى تبحث عن شيء محدد

كانت فقط تمشي داخل ممرّ خفيف الصدى

كأن الجدران تصغي لمشيها

وتلتقط وقع الخطوات لتعيده إليها أنعم مما خرج

في منتصف الممر ، لمحت باباً غير موجود

لا خشب ، لا إطار ، لا قبضة

فقط حدّ رقيق في الهواء 

يشبه شرخاً في صفحة ماء

يلمع عندما تغير ليلى زاوية نظرتها

مدت يدها نحوه ، فلم تلمس شيئاً

ولكنها شعرت بأن شيئاً يلمسها ، برفق محسوب 

مثل يد تريد أن تنبه دون أن تُخيف

ليلى تراجع أنفاسها للحظة ، ثم فهمت

هذا الباب لا يُفتح

بل يُقرر هو وحده متى يمر أحد

قالت في سرّها : ‘ ربما عليّ أن أُبطئ نبضي ليقرأني ‘

ففعلت . وسرعان ما تغير ملمس الهواء

صار أثخن قليلاً ، أدفأ قليلاً

ووقع في قلبها إدراك صغير :

هذا الباب لم يُخلق ليخفي ما وراءه

بل ليُعلن ما في داخلها

ثم حدث شيء لا يسمعه غيرها : لمسة صوت

كأن الباب قال : ادخلي ، وتقدّمت

دخلت ليلى ، ولم تجد غرفة ولا ممراً آخر

وجدت حيزاً بلا شكل ، يشبه نقطة بين نبضتين

مكان لا يحتاج إلى جدران ليحدده 

لأن من يدخله يُصبح هو حدوده

خطت خطوة واحدة ، فظهر صدى لم يصدر عنها

صدى يسبقها بدل أن يتبعها

قالت في سرها : 

‘ هل يقرأني هذا المكان أم يتخيلني ‘

جاءها الجواب بطريقة غريبة :

ارتجافة صغيرة في الهواء 

كأن الهلام المحيط بها فهم السؤال

 وأعطى موافقة ناعمة على استكمال الرحلة

لاحظت تجويفاً على يمينها ، لم يكن حفرة ولا بوابة

بل انخفاضاً في الإدراك : مساحة تُدركها من دون أن تراها

اقتربت ليلى : ومع كل خطوة 

كانت تكتشف أن التجويف يتّسع فقط

بالمقدار الذي تحتاجه قدمها التالية

وكأنه يتشكل بناء على رغبتها قبل أن ترغب

رفعت يدها ، فشعرت بسطح دافئ لا مرئي

سطحٍ يشبه صدراً لا جسد له 

يقترب بقدر ما تقترب 

وينسحب بقدر ما تتردد

المكان لا يريد منها أن تبحث

بل أن تصغي

عندها أدركت ليلى : أن ليست التجاويف للامتلاء

بل للكشف عن أجزاء من النفس

لا تجد ضوءاً مناسباً إلا هنا

همست ليلى دون صوت : ‘ أرني ما أخفيه ‘

فانشق الحيز أمامها مثل صفحة كتاب

توشك على أن تُقرأ لأول مرة

جلست ليلى على حافة الفراغ 

حيث لا يمكن للعين أن تحدد البداية أو النهاية

كل شيء حولها كان في حالة انتظار

كما لو أن اللحظة نفسها تتنفس ببطء

أغمضت عينيها

فسمعت أصواتاً لم تكن موجودة في الواقع

همسات صغيرة تمر بين فواصل الزمن 

تحمل معها ذكريات لم تعشها بعد

تنفست بعمق 

فشعرت بأن الهواء ليس مجرد هواء

بل رسالة تنتظر أن تُقرأ 

وأن كل نفس هو حرف في جملة لم تُكتب بعد

اقتربت يدها من الهواء

ولمست شيئاً لا وزن له ، لكنه كان موجوداً

مثل شعور قديم ، لم تكتشفه بعد في نفسها

لكنه عرفها منذ البداية

قالت في سرها :

‘ كل لحظة هنا تقول أكثر مما تبوح به الكلمات ‘

ثم جاءها شعور غريب بالاكتمال

ليس اكتمال الأشياء ، بل اكتمالها هي 

في هذه اللحظة ، في هذا الصمت  

في هذا الهمس الذي وحدها تسمعه

ابتسمت ليلى وفجأة فهمت :

أن ليست الرحلة للوصول

بل لتعلم سماع ما يهمس بين اللحظات 

بين الهمسات ، بين ما لا يُرى

وقفت ليلى في مساحة لا يحدها شيء

لا جدران ولا أرض

فقط ضوء خافت يلامس الفراغ

كأنه يحاول رسم حدود الغياب

شعرت بأن شيئاً يراقبها من الداخل ، وليس من الخارج

ظلّها لم يكن مجرد انعكاس ، بل كيان منفصل 

يعرف كل خطواتها قبل أن تخطوها

همست في سرها : 

‘ هل أنا من أختار الطريق ، أم الطريق هو الذي يختارني؟ ‘

فردّ عليها الصمت برد أعمق من الكلمات :

كل غياب يحمل حضوره الخاص 

وكل ما لم يُر يُصبح جزءاً منك

تقدمت خطوة ، فامتد الظل من تحت قدميها

ليس ليتبعها ، بل ليحملها على اكتشاف نفسها

لم تعد تعرف أين تنتهي هي وأين يبدأ الفراغ 

وأين يبدأ الغياب وينتهي الحضور

ابتلعت اللحظة الصمت ، فابتسمت له 

وكأنها تعرف سر كل ما هو غير مرئي

حينها فهمت :

ليست الأشياء الغائبة التي تصنع الفراغ

بل وعيها بها هو الذي يمنحها 

ليلى ” باب لا يراه أحد ”

ليلى " باب لا يراه أحد "

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *