قصة
بين الأبيض والأبيض
رنيم ديب
وصلَتني رسالةٌ من والدي وأنا في تلكَ المدينةِ النَّائية ، أجري عمليّةً جراحيّةً عاجلةً لأحدِ المرضى، قبل موعدِ سفري بيوم، لم يتسنَّ لي قراءَتها حينها، فما إن انتهيتُ من العمليّة حتَّى هرعتُ إلى الشَّاطئ المُحاذي للمستشفى أحثُّ الخطى على عجلٍ، متلهفةً لمعرفةِ ما تحملهُ الرِّسالةُ بينَ أضلُعها، وكانت الشَّمسُ تعانقُ خطَّ الأفقِ في وداعِها الأخير، وتوشَّحت رمالُ الشَّاطئ ثوباً ورديّاً مُنعكساً عن ذيولِ الشَّفق.
لم يتمكَّن كلُّ هذا من أن يبرِّد لهيباً قد أُشعلَ في قلبي، فجراحُ كلماتِ الرِّسالة قد أثخنَت قلبي بفحواها، ضممتُ يديَ على شغفٍ من حريق، أغمضتُ عيني، ولممتُ أشلاء روحيَ المتناثِرة، وحملتُ حاجيّاتي وحقائب همومي وودّعتُ مدينتي النّائية، وعدت إلى مسقطِ رأسي، إلى مدينةِ اليَاسمين، ما أمضيتُ فيها عشرينَ عاماً بطعم التِّينِ والزَّيتون، كان لي الشَّرف أن أمضيتُ صبايَ فيها، وأنَّها كانت أمّاً ثانيةً لي، وعند وصولي أرض الياسمين، كان اللّيل قد أرخى سدولَه على جنباتِها وتساقطَت أنجمُه لتستقرَّ على عروقِ الياسمين المُتدلي في حاراتِها القديمِة وأزقَّتها، والّتي كانت المعبر الوحيد لوجهتي، في تلكَ الأزقَّة لا تخش أن يصيبكَ الضَّياع، فكلَّ الطُّرق تؤدي إلى دمشق.
واصلت السَّير لأصلَ إلى قصر طفولتي، وكونيَ الزُّمرديّ، “بوابةٌ خشبيّة صغيرةٌ تتفتّح على الأخضرِ والأحمرِ واللّيلكيّ، وتبدأ سمفونيّةُ الضَّوء والظِّلٍّ والرّخام ” هَبّت نسمةٌ باردة راقصت شجر اللّيمون ذات اليمين وذات الشّمال، وقبّلت أقمار الياسمين، دخلتُ وبيدي باقةُ وردٍ أبيض، فضمّني عطرُ الذِّكريات وسكن جوارحي، وشدَّني الشُّرود لعالمهِ وأعادني لليلةِ وئامٍ في مهدِ طفولةٍ معهودةٍ برّاقة، تذكرتُ فيها أموراً عشتها كرؤيا صباحٍ عابرة، كومضةٍ بارقة، وتوقفتُ، حين سقطَ الجمر على الزَّهر، فأحرقَها وصارت رماداً.
كان والدي وإخوتي ومن يفترض أنّه سيكون زوجاً لي بين ليلةٍ وضحاها يتحلّقون حولَ نافورةِ البيت وكأنَّهم يجلس على رؤوسهم الطّير، وأصوات الدّموعِ تتعالى من الغرفةِ كأصواتِ المآذنِ وقت الصّلاة.
أمِّي! لمَ أنتِ نائمة؟ ابنتكِ قد عادت، أتذبلين؟! أنتِ الّتي نامت على عينيكِ آلافُ الحقول، أتذبلين!
وتستلقي بهدوءٍ وسلامٍ كطفلةٍ نامت بين رضعتين، وبقايا أشعةٍ من القمر تنساب خيوطاً على وجنتيها.
في السَّاعةِ الخامسة والعشرين تماماً، مرّت كغمامةٍ عابرة، تحملُ على كتفيها رداءها الأبيض مرفوعاً مع الرّيح إلى الأفق البعيد.
لمَ كذبت عليَّ يا أمِّي! قلتي لي أنّني سأرتدي الأبيض صباحاً، ما لي أراكِ عِشيّةً قد سبقتني إليه؟! هل يعني هذا أنّكِ عروس الكفنِ الموعودة؟!
هلّا تعودين! أرجوكِ عودي، يا نرجسيّة العينين، يا ياسمينة السَّماء، ويا قسوةَ الرَّماد، عودي.قصةبين الأبيض والأبيض